آليات التعايش السلمي ووسائله

صهيب حسن المدني المباركفوري

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبعد:
فإن كلمة "التعايش” مأخوذة من عيش وهو الحياة وتعايش القوم بالألفة والمودة أي عاشوا مجتمعين على الألفة والمودة، ومنه التعايش السلمي.
وكلمة "السّلم” كما قال الراغب: "السِّلم والسَّلامة: التّعَرِي من الآفات الظاهرة والباطنة، والسّلام والسَّلْم وَالسِّلْم: الصُّلْح.”
والمراد بآليات التعايش السّلمي أساسه ومقوماته وهي أربع: (1) العمل للدنيا (2) العمل للآخرة (3) الإصلاح (4) منع الفساد، كما قال تعالى: ” وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ‎﴿٧٧﴾) (القصص: 77)
وهذا المفهوم أيضا جاء في سور العصر قال تعالى: وَالْعَصْرِ ‎﴿١﴾‏ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ‎﴿٢﴾‏ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ‎﴿٣﴾‏ (سورة العصر: 1-3) أي لا بد للإنسان أن يتصف بأربع صفات: الإيمان بما أمر الله بالإيمان به، ولا يكون الإيمان بدون العلم، فهو فرع عنه لا يتم إلا به. والعمل الصالح، وهذا شامل لأفعال الخير كلها، الظاهرة والباطنة، المتعلقة بحق الله وحق عباده ، الواجبة والمستحبة. والتواصي بالحق، الذي هو الإيمان والعمل الصالح، أي: يوصي بعضهم بعضًا بذلك، ويحثه عليه، ويرغبه فيه. والتواصي بالصبر على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله المؤلمة. فبالأمرين الأولين، يكمل الإنسان نفسه، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره، وبتكميل الأمور الأربعة، يكون الإنسان قد سلم من الخسارة، وفاز بالربح العظيم.
وأما وسائله فهي لا تخرج عن العمل الصالح فَمِن العمل الصالح اختيار جميع الوسائل التي تؤدي إلى التعايش السلمي الذي هو من مقاصد الشريعة.
فالوسيلة الأولى : تعلم العلم والتفقه في الدّين.
هذا من أهم وسائل التعايش السلمي لأنّ صاحب العلم لا يعمل عملاً يشين علمه أو يعيب خلقه أو يؤذي الآخرين قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ. (سورة محمد: 19)
فأمر بالعمل بعد العلم، وأكثر النّاس في ولاية كيرلا متعلمون ومثقفون فلذا نرى أنهم يتمتعون بالتعايش السّلمي أكثر من غيرهم فلله الحمد والمنّة .
الوسيلة الثانية: القيام بأداء العبادات المفروضة.
والعبادات المفروضة لها أثر بالغ في توفير التعايش السّلمي بل هي من أهم الوسائل له، وقد فرض الله عزوجل العبادات لأنها تعينهم على الخير، وعلى تحقيق أهداف الإنسانية العُليا حين تطهر أرواحهم وتصل قلوبهم بالله
الوسيلة الثالثة : فعل الخير مع كل الناس
فإن فعل الخير ذو أثر فعّال، وله قيمة خالدة، بغض النظر عن ابتغاء الأجر أو العوض المادي، ومن غير تفرقة بين المسلم أو غير المسلم، ومن باب أولى بين أتباع المذاهب الإسلامية، فإذا لمس الإنسان حب الخير وفعله، بادر إلى الدخول في الإسلام، وعلم أنّه دين حضاري وذو مصدر إلهي سماوي، وهو الغاية الأساسية من نشر دعوة الإسلام.
الوسيلة الرابعة: لطف الكلام وحسن الخطاب
تقتضي معايير الأخلاق الكريمة ألا يتجهم (يعبس) المسلم في وجه غيره، وأن يكون حسن المعشر، حلو الكلام، رقيق الطباع شديد الحساسية والشفافية، لا يؤذى غيره ولا يغلظ عليه، لأن الإسلام دين الرحمة العامة بالعالمين، قال سبحانه حاصرًا مهمة رسوله بقوله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ‎﴿١٠٧﴾ (الأنبياء: 107).
ونهى الله تعالى المؤمنين عن سب آلهة المشركين في وجوههم كيلا يدفعهم ذلك إلى سبّ الإله الحق، فقال: "وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ (الأنعام:108)
الوسيلة الخامسة: التعاون بين السلمين وغيرهم
يحض الإسلام على كل أوجه التعاون على البر والتقوى والخير لأن فيه نفع الفرد والجماعة وتحقيق التعايش السلمي بينهم، فقال تعالى : "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ” ، (المائدة : 2) وقال جل جلاله : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواۚ” (الحجرات: (1) ، فالتعارف والتآلف، لا التناكر والتخالف هو سمة المسلمين عامة مع جميع الناس.
الوسيلة السادسة : الحفاظ على الحقوق
إن التعايش السلمي لا يتوصل إليه إلا بالحفاظ على حقوق الإنسان، وحقوق الأسرة والمرأة، والعمل على رد الأمانات وحفظ حقوق الآخرين، والابتعاد عن الظلم والتظالم، وإنصاف الآخرين واحترامهم، لأن الإنصاف هو الذي يحقق الوئام والاستقرار وينشر المحبة والإخاء.
ولو سلك الناس طريق العدل فيما بينهم، وبادروا إلى احترام حق الآخرين وآرائهم، والتزموا جادة الاستقامة لعم الخير في الأرض، وزادت البركة والأرزاق ، كما قال تعالى : ” وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا ‎﴿١٦﴾‏” (الجن : 16]
الوسيلة السابعة : صون الحرمات والقيم
لا سبيل للتعايش السّلمي ولا سبيل لتقدم الأمم والشعوب والمجتمعات إلا بصون الحرمات العامة والخاصة، حرمة الوطن وحرمة العرض، وحرمة الدين وحرمة الأمّة وحرمة الأخلاق وحرمة النظام العام والآداب، وصون المقدسات، والجهاد المشروع لدفع الظلم والعدوان والاحتلال، والعمل على وحدة الكلمة والصف والإخلاص في العمل وانسجام القول والعمل، والظاهر والباطن والسر والعلن وغير ذلك من مقومات الإخلاص والإنقاذ والنجاة فتلك ضرورات في الحياة الإجتماعية السّويّة، وإلاّ شاع التملّق والنفاق والكذب والرياء والفتنة العمياء والوقوع في آفات الضلال والانحراف والضياع وتخريب المدنيات وتهديم الحضارات.
وقد رعى الإسلام كل هذه الحرمات ليعم الخير ويتحقق التعايش السلمي، وترفرف ألوية السّعادة والإحسان، ويظفر النّاس بنعيم الدّنيا والعمل للآخرة .
الوسيلة الثامنة : العدالة المطلقة أو العدل العام
العدل هو بذل الحقوق الواجبة وتسوية المستحقين في حقوقهم والعدالة المطلقة أساس كل علاقة إنسانية في الإسلام، لأن الظلم والطغيان أساس خراب المدنيات وزوال السلطان وانهيار النظم، قال تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ”. (النحل: 90) وَقال تعالى: "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ” (المائدة:8) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار وهو بغض مأمور به، فإذا كان هذا قد نُهِيَ صَاحِبُهُ أن يظلم من أبغضه فكيف في بغض مسلم بتأويل أو شبهة أو هوى”
ولقد طبق المسلمون هذه النصوص حتى ضرب بخلفائهم المثل في العدل. وهكذا يتلازم الإخاء الإنساني والرحمة مع العدل في الإسلام. ومن أمثلة عدالة الخلفاء المسلمين ما حدث من اقتصاص عمر بن الخطاب رضي الله عنه من ابن واليه عمرو بن العاص رضي الله عنه لضربه مصريًا دون حق وقوله لعمرو: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا)
الوسيلة التاسعة : القضاء على فكر الخوارج والإنكار على جماعات العنف
إنّ تورّط بعض الشباب المسلم في ارتكاب بعض الأعمال الإرهابية داخل الدول العربية والإسلامية وغيرها لا مسوغ له بحال، بل يتنافى مع خصائص الوسطية الإسلامية والتسامح الإسلامي والتعايش السلمي، وهو إفساد وخراب وتدمير وتقتيل، ولا يقره شرع الله ودينه، وعلماء المسلمين قاطبة متفقون على عدم مشروعيته والتنديد بمن يمارسه أيا كان مقصده ونيته، فهؤلاء فعلاً هم الإرهابيون الذين تجب مقاومتهم، ولكن هل تأديبهم یعني حصاد الشعوب واحتلال الأوطان من قبل المستعمرين الظالمين؟!
الوسيلة العاشرة : الإخلاص في التعامل مع الآخرين
المسلم في تعامله مع الآخرين لا بد أن يقصد وجه ربه الكريم في امتثال أمره واجتناب نهيه سبحانه، مخلصًا له لا يشوب عمله شائبة هوى من حب انتقام أو تشف ولا طلب ثناء أو مدح، على أن العمل نفسه ينبغي أن يكون وسيلة للوصول إلى مرضاة الله فهو ليس غاية في حد ذاته، فلا ينبغي أن تكون الوسيلة مؤدية إلى غير ما شُرِعت له، فلا بد أن تكون الرغبة فيما عند الله وحده، كما أن الرهبة لا تكون إلا منه سبحانه.
تلك عشرة كاملة وغيرها من وسائل التعايش السلمي من المأمورات والمنهيات كالإحسان إلى الجيران المسلمين وغيرهم وعيادة المرضى المسلمين وغيرهم ودعوة المسلمين وغيرهم إلى الولائم والإحسان في المعاملات کالبيوع والنكاح وإكرام الضيوف وصلة الأرحام والإيفاء بالعهد وأداء الأمانات وصدق الحديث والإيثار وحفظ اللسان والحلم والأناة وتربية الناشئين تربية إسلامية وترك المغالاة في الدّين أو التشدّد والتعمق فيه وإيقاع العقوبات بالجُناة والمعتدين والاجتناب من الفواحش وتتبع العورات والمنكرات الظاهرة السافرة: الخمر والميسر والزنا والخلاعة والمجون والربا والتحاسد والتباغض والتدابر وسائر المحظورات الشرعية .
إنّ تحقيق التعايش السلمي مطلوب في كل زمان ومكان، في الداخل والخارج وفي السّفر والحضر وفي البيت والقصر وفي المصانع والأسواق وفي المساجد والمدارس والجامعات وفي المحاكم والبرلمان وفي القرى والمدن والولايات حتى في البلاد كلّها وفي الدنيا كلها عملاً بقوله تعالى : ” وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا” (الأعراف: 56و85) وقوله صلى الله عليه وسلم: "كونوا عباد الله إخوانا”
وينبغي للأمة المسلمة ولا سيما لعلماءها وأصحاب المنهج القويم أن يُثبتوا فعلاً بأننا دعاة سلم وتعايش بين كل الشعوب والأمم بفضل روح السماحة التي هي من أجلّ خصائص ديننا الإسلامي الحنيف، وإن المسلمين يملكون -بلا شك وفي كل الأحوال- استعدادًا قويًا ذاتيًا لأن يتعايشوا مع من يرغب في التعايش معهم من غير تهاون أو تفريط؛ إنه صورة التعايش الذي تبرز فيه كل الشعوب متساوية من غير غبن أو اسنتقاص.
إننا نأمل في قيام عالم أكثر عدالة ومساواة، وأكثر أمنًا واطمئنانًا، وأكثر رغبة في السلام من غير انحياز، ولعل مرارة التجارب الماضية وما تحملته الإنسانية من كوارث الحروب المدمرة ولا زالت، وويلات الفقر والخصاصة، قد ينشئ وعيًا عالميًا جديدًا يبشر بحياة أفضل على كوكبنا الأرضي. والله الموفق والمعين.

———–
المنجد والمعجم الوسيط مادة: عيش
المفردات للراغب: ٢٤٠
تيسير الكريم الرحمن في تفسير الكلام المنّان للمعلاّمة عبد الرّحمن بن ناصر السّعدي، ط: الكويت 1430 هـ-2009م
الإنسان بين المادية والإسلام لمحمد قطب ص 99
موسوعة الفقه الإسلامي والقضايا المعاصره للأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي ص: 7/146
موسوعة الفقه الإسلامي والقضايا المعاصره للأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي ص: 7/148- 149
الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السّعدي، نقلاً عن نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (7/2792)
تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 456)
حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة للسيوطي ص 192
موسوعة الفقه الإسلامي (السّابق)- 13/774
كتاب المؤتمر الثاني عشر لمجمع البحوث الإسلامية (هذا هو الإسلام) 1/627 ط: الأزهر الشريف 1423 هـ =2002م
أخرجه البخاري: 6065، ومسلم: 2559

Leave a Reply

avatar
3000
  Subscribe  
Notify of