الفساد المالي: أسبابه وعلاجه

حسان أبوالمكرم المعاملات

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد!
قال الله تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [سورة البقرة: 60].
مما لا ريب فيه أن الفساد من الآفات التي تسبب لانحطاط المجتمع، وتفقد جودتها وتطورها، والعجيب من هذا أن نسبة الفساد تتزايد يوماًً فيوماً، وتتجدد وتتنوع بأساليب حديثة، وهو داء عضال يؤثر على الفرد والمجتمع، سواء كان المجتمع غنياً أو فقيراً، مثقفاً أو غير مثقف.
والفساد على أنواع منها:

الفساد المالي،

والفساد الإداري،

والفساد السياسي وغير ذلك …

فما هو هذا الفساد يا ترى؟ وماهي أسبابه ودوافعه؟

الفساد لغة:

عكس الصلاح، بمعنى التلف، الاضطراب والخلل، والجدب والقحط، وإلحاق الضرر، وأخذ المال ظلماً … ومنه قوله تعالى (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا) [سورة المائدة: 33].
وحديثنا سيكون عن نوع واحد من تلك الأنواع للفساد، وهو الفساد المالي، ولذا يمكن أن نعرف الفساد المالي اصطلاحاً بأنه: أخذ المال ظلمًا، أو مخالفة الأنظمة والقوانين المالية.

الفساد المالي ليس موضوعًا جديدًا، أو حادثة حدثت في العصور المتأخرة، بل وقع في أمم كثيرة، مثلاً عند بني إسرائيل، كما وصفهم القرآن بأنهم كانوا يأكلون السحت، وكذلك ظهرت الجريمة المالية في قصة يوسف عليه السلام بنوع السرقة، فقال عزوجل (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ) [سورة يوسف: 73]، وكذلك في قوم شعيب عليه السلام في نقص الكيل والميزان كما قال سبحانه ( وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [سورة الأعراف: 85]، وأيضاً ورد ذلك في قوم ثمود عليه السلام كما ذكر بعض المفسرين في تفسيرهم لآية (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) أنهم كانوا يقرضون الدراهم "يَعْنِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْهَا، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِهَا عَدَدًا، كَمَا كَانَ الْعَرَبُ يَتَعَامَلُونَ.” [تفسير ابن كثير، سورة النمل: 48].
إلى غير ذلك من النصوص والآثار التي وردت في هذا الشأن.

أما أسباب الفساد المالي فكثيرة، نذكر بعضا منها على سبيل المثال وليس الحصر:
• عدم التقوى وفقد المراقبة: من أهم الأسباب التي تجعل الفرد أو المجتمع يتجرؤ على هذه الجريمة، هو عدم التقوى وفقد مراقبة الله، وكذلك عدم وعي الاستشعار بذلك، فلو تأمل في قوله (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [سورة النساء: 1]، واستشعر المراقبة الربانية، وحاسب نفسه لما تجرأ على هذا الفساد.

• زيادة الطمع وكثرة حرص المال: وهذه من المصائب التي ابتلي بها كثير من الخلق إلا من رحم الله، فقد زاد الحرص والطمع للمال وللأمور الدنيوية، وجعل هدفه الأصلي هو جمع المال وكأنه سيعيش في الدنيا قرورناً، ونسي الآخرة وأنه سيحاسب عن هذه الأموال الطائلة ومن أين اكتسبها وفيما بذلها، وهذه من طبيعة الإنسان كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ ) [رواه مسلم: 1048]، لذا يجب على الإنسان أن لا يزيد الطمع في الأموال الفانية التي ربما لا تنفعه في الآخرة إلا إذا كان عن طريق الحلال كما قال سبحانه (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [سورة الشعراء: 88-89]، وربما تكون هذه الأموال الطائلة فتنة له كما قال جل شأنه (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [سورة التغابن: 15]، لذا على الإنسان أن يقتنع بما آتاه الله من فضله ولا يبخل ولا يطمع ويحسن بماله كما أحسن الله إليه لقوله سبحانه (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [سورة القصص: 77].

• الخيانة والغش: ومن الأمور التي تكاثرت وتواجدت في هذا العصر انتشار الخيانة والغش، ولعل هذا من الأسباب الكبيرة المؤدية إلى انحطاط الجودة، وزوال البركة لدى أي مجتمع، ولذا نفى الرسول صلى الله عليه وسلم كمال الإيمان عمن لا أمانة له، كما قال عليه الصلاة والسلام ( لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له) [صححه الألباني في الترغيب 3004]، وتعتبر الأمانة من صفات المؤمنين كما في قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) [سورة المؤمنون: 8]، وقد حثنا الإسلام على أداء الأمانة في جميع نواحي الحياة، ومنها الأمور المالية أيضاً فقال سبحانه:( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا) [سورة النساء: 58]، مع مراعاة الواقعية والحقيقة، بعيداً عن الغش والخداع، لأن الغش أيضاً محرم وتترتب عليه آثار سيئة كالإثم وارتكاب المعصية وفقدان الثقة وإضاعة الأمانة وأكل المال بالباطل وغير ذلك.

• حب الدنيا: ومن الأمور التي افتتن بها كثير من الخلق هو حب الدنيا، وكأنه سيعيش في الدنيا ولن يفارقها، فتراه يحاول في جمع المال دون مبالاة، ودون النظر عن طريق مكسبها ومصدرها، ويزخرف حياته الدنيوية ويتباهى بها، وهذا ما عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بالوهن، كما قال عليه الصلاة والسلام : "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله؛ وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت”. [رواه أبوداود، وصححه الألباني 4297]، فإذا أحب الإنسان دنياه أكثر، وتغافل عن ربه وعن الآخرة؛ فإنه سيهتم بجمع المال والقناطير المقنطرة والذهب والفضة وغير ذلك، نسأل الله السلامة.

• الكذب وعدم الصدق: وذلك لأن النجاة والسعادة في الصدق، والصدق في المعاملات المالية من أسباب البركة، كما قال عليه الصلاة والسلام: ” البيعان بالخيار مالم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما”. [رواه البخاري: 2082]، فلذا يجب على الإنسان يتحرى الصدق في أموره وأن يكون صادقاً صريحاً في معاملاته حتى ينال الأجر والثواب، ويقضي على الفساد المالي من مجتمعه وبيئته.

• الرشوة: وهو ما يعطى لإبطال حق أو إحقاق باطل، وتعتبر الرشوة من الجرائم العظيمة التي انتشرت في كثير من البلدان، وفي مختلف نواحي الحياة كالتوظيف والتعليم والإجراءات اللازمة وغير ذلك، ولذا يمكن أن يقال أنها من أمهات الفساد المالي، والرشوة أيضا نوع من الأموال الباطلة التي اتصف بها اليهود كما قال سبحانه ( سماعون للكذب أكالون للسحت) [سورة المائدة: 42]، وهي محرمة شرعاً ومرتكبها مستحق للعنة؛ كما ورد عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي”. [رواه الترمذي: 1337، وقال: حسن صحيح]، ولذا يجب على الإنسان أن يجتنب هذه الأمور ويهتم بالكسب المشروع، ويسأل الله رزقاً طيباً مباركاً، ويقتنع فيما آتاه الله.

وهناك أسباب كثيرة للفساد المالي لا يمكن حصرها في هذه العجالة، ولكن يمكن أن نشير إلى بعض منها كالسرقة، وحكمها وما يترتب عليها من مفاسد ومصائب واضحة كوضوح الشمس، أيضاً منها غسيل الأموال أيضاً، والبطالة كذلك، وعدم مراقبة الحسابات والأموال وما تم تحويله وإيداعه ومن أين استلمت هذه المبالغ، كذلك سوء التخطيط وعدم التوجيه والإرشاد وعدم الإنكار على مرتكبي هذه الجرائم أو الفساد المالي، ومما يذكر من الأسباب أيضاً هو تفويض مسؤولية المالية لمن ليس عنده أهلية لهذا الأمر، وكذلك التعاون على الإثم والعدوان وعدم تنبيه المسؤولين بهذا الأمر …. إلى غير ذلك من الأسباب.

ولو قلبنا صفحات التاريخ لوجدنا أن الفساد المالي كان موجوداً في القرون السابقة، لكن لم تصل النتيجة إلى هذا الحد الذي عليه اليوم، بل مرت بعض العصور التي لم يكن فيها الفساد المالي نهائياً كما ذكره بعض العلماء، مثلاً زمن سليمان عليه السلام، وكذلك زمن يوسف عليه السلام حين قال: ( قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) [سورة يوسف: 55]، وكذلك في زمن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله وغيرهم.

وهذه حقيقة لا تجحد أن الفساد المالي يمحق البركة ويورث المشاكل والقلق والاضطراب ويفقد الجودة والتطور والنمو والارتقاء، في أي مجال كان؛ فترى أن هذه الأموال تتداول بينهم، ويحرم مستحقوها …

و أضرب لكم مثالاً ( وبالمثال يتضح المقال) حتى نعرف قدر الفساد المالي الذي يحدث أحياناً وكم تصل فيها نسبة الخسران …
كانت الهند تسمى (عصفورة الذهب) بسبب ثروتها ومقدار الذهب التي كانت تملكها حتى جاء الاستعمار البريطاني، وأخذوا هذه الثروات الطائلة، ولكن جاءت بعد الاستعمار البريطاني فكرة الفساد المالي …، وسأذكر هنا إحصائية هذه الأموال (BLACK MONEY) حسبما أعلن الرئيس الهندي:
عدد سكان الهند أكثر من مليار وربع حسب تقارير عام 2014 ميلادي ، والأموال الغير مشروعة (BLACK MONEY) الموجودة في بنك سويسرا فقط لبعض أثرياء الهند تصل إلى حد .. أنه لو وزع على كل هندي (صغير أو كبير، ذكر أو أنثى) لحصل كل منهم على 300 ألف روبية هندية، وحسب بعض تقارير المباحث الهندية: لحصل كل هندي مليون ونصف روبية هندية….. والله المستعان.
الشاهد من هذا المثال هو أننا ندرك مفاسد هذه الجرائم المالية، وكيف تهبط بهم إلى الزوال، وتقضي على حقوقها وتمنع مستحقيها بالظلم والعدوان …

وختاماً أسأل الله تعالى أن ينفعنا بما ذكرنا، وأن يجنبنا من الكسب المحرم، ويرزقنا حلالاً طبياً، ويبارك لنا فيه، ويوفقنا إلى الأعمال الصالحة لما يحبه ويرضاه.
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.

Leave a Reply

avatar
3000
  Subscribe  
Notify of