من دروس الطبيعة…

كفايت الله عبدالخالق الفارس الإنتاج الأدبي النثري

انقضت دولة الظلام وانسحبت جنود الليل ورفع الصباح رأيته البيضاء وقرص الشمس يطلع من بين الجبال كأنه كرة حمراء أو كأنه دائرة في صفحة متسعة بيضاء قد أجرت فيها الطبيعة أقلامها وملأت تلك الدائرة بلون أحمر وخيوطها الصفراء المنبعثة منها تعلو إلى آفاق السماء وبدأ الكون يبتسم في نسيم عليل، وغدت الطيور من أوكارها لابتغاء فضل ربها.
هناك شاب جالس على صخرة صماء من صخور الجبال يفكر في أمره وأمر مستقبله وحوله أشجار طويلة كثيفة خضراء، ولا تستطيع الشمس تصله إلا أن قطع أنوارها تتساقط بين فجوات الأغصان كأنها لآلي متناثرة، وأمامه العين النقية تجري من ينبوع منفجر تحت صخرة عالية كبيرة وقد سيطر صوتها على عالم السكوت في ذلك المكان، وكان الشاب يفكر في أيام حياته أنها قد وصلت إلى منتصفها، قد كتبت لها تلك الذكريات الجميلة التي كان يسعد بها في عيشه، وتلك البلاءات التي كان يشقى بها في حياته.
والآن ما مضى صار من ذكريات الأيام الغابرة، ولا بد له أن يبحث سبيلا إلى مستقبل مضيء، كل شيء كان واضحا عنده، و لكن المصيبة هي ضعف الهمة… متى نشأت وقّفته من تحقيق أهدافه العالية الغالية.
وقف لحظة فنظر إلى أزهار متفتحة على أعناق شجيرات صغيرة فهي لا تزال تبتسم في أشعة الشمس، وقطرات الندى تتساقط من أوراقها لؤلؤا لؤلؤا فتتكسر على وجه الأرض فتنبسط فتفنى، وقف الشاب هذا الموقف وفكر كيف لهذه الأزهار المسكينة أن تبتسم لهذه الحرية الكاملة! وهي تعلم أن حياته ستنتهي عند نهاية النهار! ثم رفع رأسه قليلا، فوقعت نظراته على أغصان مملوءة بالثمار والفواكه مائلة إلى الأرض كأنها تركع من كثره أثقال ما تحمله، توقف قليلا وقفة المتأمل الخبير فتبين أن الأشجار لاتزال تثمر و إن كانت على معرفة تامة أن الناس سيرمونها بالأحجار ويملكون إنتاجاتها وثرواتها.
ثم غير جلسته وحول جنبه إلى ذلك الينبوع الذي كان ينفجر تحت صخرة هائلة ففشل مخه وعجز لبه عن أن يصل إلى نتيجة ما، لأن الحجر كان يتفجر من المياه، وهل يعقل أن الحجر الثقيل الجامد يملك الماء الخفيف السائل! وحينئذ مر بجانبه جماعات العصافير مغردات بنغماتها البديعة الرائعة تنتشر أصواتها في أنحاء الفضاء، فشعر الشاب فجأة بدبيب شيء خفيف على عاتقه فملك الخوف قلبه وبدأ يرتعد جسمه وغمضت عيناه وحين ذلك دخل صوت عذب في أذنه اليمنى من قريب كأن عصفورا يهمس في اذنه قائلا :

انظر أيها المسكين إلى تلك الأزهار التي لا تزال باسمة في أشعة الشمس وهي تدري أن الحياة قصيرة جدا.
انظر أيها البائس إلى تلك الأشجار التي لا تزال حافلة بثمرات كثيرة وهي تدري ماذا سيحدث بها.
انظر أيها المنكوب إلى الحجر الأصم الذي لا يخلو من ماء عذب يسقي العطشان ويروى الظمآن وهو يعلم أن لا نفع له فيه.
وانظر أيها العاجز إلينا قد خرجنا من أوكارنا وتركنا راحتنا نغدو خماصا وسنروح بطانا.
فلا تفكر ولا تضطرب، انهض واسلك سبيل تلك الأشياء التي لا يهمها قصر العيش وطوله ولا يهمها إلا أعمالها فأنت مسؤول عن أعمالك…
ففتح الشاب عينيه فإذا عصفور قد ترك عاتقه وبدأ يطير متوجها إلى رفيقاتها العصافير.
على كل حال، فقد وجد ما ينجيه من ضعف همته وكسر خاطره من دروس غالية ترشده إلى سواء السبيل…

1
Leave a Reply

avatar
3000
1 Comment threads
0 Thread replies
1 Followers
 
Most reacted comment
Hottest comment thread
1 Comment authors
Naseem Akhtar Recent comment authors
  Subscribe  
newest oldest most voted
Notify of
Naseem Akhtar
Guest
Naseem Akhtar
عبارات رائعة منعشة للعزائم بارك الله فيكم