المقدمة
الحمد لله رب العالمين، المتكفل بحفظ الدين، والصلاة والسلام على سيّدنا ومولانا محمد الداعي إلى الحق المبين، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أمَّا بعد:
فَإنَّ قَضِيَّةَ "التفرُّد” مِن القَضَايا المهمَّة في علومِ الحديث، ولها أثرٌ ظاهرٌ في العديد من المباحث الحسّاسَة في هذا العلم، فالتفرُّد يدخل في التصحيح والتضعيف دُخولاً بيِّناً، ويأخذُ دوراً أسَاسياً في قبول الرواية أو رَدِّهَا، كما أنَّ للتَفرُّدِ صِلةً قويَّةً بِعِلْمِ العِلَلِ، ويَدْخُلُ في كثيرٍ مِن أنْواعها. فرأيتُ أنْ أكْتُبَ البحْثَ حَوْلَ هذا الموضوعِ لأهميتِهِ البَالِغَةِ فِي عِلْمِ الحديث.
وقد جعلتُ البحثَ في مقدّمَةٍ وخمسة مباحثَ، وخاتمةٍ.
المقدّمة: وهي تشتمل على البحث وأهميته وخطّته.
المبحث الأول: تعريف التفرّد لغةً واصطلاحًا وأنواعه.
المبحث الثاني: حكم التفرّد المطلق.
المبحث الثالث: صلة التفرّد المطلق بالشّاذ والمنكر.
المبحث الرابع: حكم التفرّد النّسبي.
المبحث الخامس: صلة التفرّد النّسبي بعلم العلل.
الخاتمة: وقد تضمّنت أهمّ نتائج البحث.
المبحث الأول: تعريف التفرُّدِ لغةً واصطلاحًا وأنواعُه.
الفرد لُغَةً: الْوِتْر.
وَاصْطِلَاحًا: هو ما يَتَفرَّدُ بروايته شخصٌ واحدٌ، في أيّ موضعٍ وقع التفرّد به من السند. وهو قِسْمَانِ:
الأوَّل: الْفَرْد الْمُطلق: وهو الحديثُ الّذي انفرَدَ به الراويُ الواحدُ عن كلّ أحدٍ؛ من الثقاتِ وغيرهم.
الثَّاني: الفَرْد النسبيٌّ: وهو الحديث الذي حَصَلَ التفرُّدُ فيهِ بالنسبةِ إِلى جهة مُعَيَّنة؛ وإنْ كَان الحديثُ في نفسِه مشهورًا.
وهو أنواعٌ: مَا قُيِّد بثقةٍ كقولهم: لم يروِه ثقةٌ إلّا فلانٌ انفرَدَ به عن فُلانٍ، أو قُيِّدَ ببلدٍ مُعَيّنٍ كمَكَّةَ والبصرةَ ومصر، كقولِهم: لم يَرْوِ هذا الحديثَ غيرُ أهلِ البصرة، ونحو تفرَّدَ به أهلُ مصر لم يشرَكْهم أحدٌ. أو قُيِّدَ براوٍ مخصوصٍ حيثُ لم يروِه عن فلانٍ إلا فلانٌ (1).
والفرد والغريب هما مترادفان.
قال ابنُ حجر: "الغريب والفرد مترادِفان لغةً واصطلاحًا، إلا أنّ أهلَ الاصطلاحِ غايَرُوا بينهما مِن حيثُ كثرةِ الاستعمالِ وقِلَّتِهِ، فالفردُ أكثر ما يُطلِقُونه على الفرْدِ الُمطلق، والغريب أكثر ما يطلقونه على الفرْد النّسبي”(2).
.
المبحث الثاني: حكم التفرّد المطلق
كان علماءُ الحديث يذمّونَ الغرائبَ والأفرادَ، ويحذّرون منها.
قال إبراهيم النّخعي: «كانوا يكرَهون غريبَ الكلام وغريب الحديث»(3).
وقال عبد الرزّاق: ” كنّا نرى أن غريبَ الحديث خيرٌ، فإذا هو شرٌ” (4).
وقال أحمد: «لا تكتبوا هذه الأحاديثَ الغرائبَ، فإنّها مناكيرُ، وعامّتها عن الضعفاء»(5).
ولكن كلامهم هذا في ذمِّ الأفراد والغرائب من حيثُ الجملة والأغلبيّة؛ لأن عامَّتها مناكير، ويُحملُ على تفرُّدِ من لا يُحتمَلُ تفرُّدُهُ من الضُّعفاءِ ومَن دُونهم، وممّا يوكّدُ هذا الأمرَ أنَّ المحدّثين لم يبيّنوا في شروط الحديث الصحيح أنْ يتعَدَّدَ رواتُه، بل ذكروا فيه: أنَّما يرويه الثّقةُ العدْلُ الضّابطُ صحيحٌ مقبولٌ إذا اتَّصَلَ سندُهُ، ولم يكُنْ شاذًّا ولا معللًّا، وهذا الّذي جَرى عليه عملُ البخاريُّ ومسلم في صَحِيحَيْهما، وهو الّذي استقرَّ عليه عملُ المحدّثين، فقد تلقَّوا أحاديثهما بالقبول دونَ تفريقٍ بين الأفراد وغيرِها، وقد ذكر ابنُ حجر: أنَّ في الصَّحِيحَيْن قدرَ مائتي حديثٍ من الأفراد الغرائب الّتي ينفرِدُ بها ثقةٌ من الثِّقات(6)، وهو الّذي مشى عليه أصحابُ المصنَّفات في مصطلح الحديث من لَدُنْ ابنِ الصَّلاح إلى زماننا هذا. قال ابن الصّلاح بعد أن عرّف الحديثَ الصحيح، ” فهذا هو الحديث الذي يُحكم له بالصّحة بلا خلافٍ بين أهلِ الحديث.(7)”، فنقل إجماعَ أهلِ الحديث على صِحَّةِ حديثٍ استوفى شروطَ الحديثِ الصّحيحِ، ولم ينازعْهُ أحدٌ ممّن جاء بعدَه في نقلِ هذا الإجماعِ.
وفيما يلي نَسوقُ بعضَ النّصوص للأئمّة النقّاد المتقدِّمين التي تُبَيِّن هذا المعنى.
قال الإمام مسلم في مقدّمة "الصحيح”(8): "لأنّ حكمَ أهل العلم، والّذي نعرِف من مذهبهم في قبولِ ما يتفرَّدُ به المحدِّثُ من الحديث أنْ يكونَ قد شارك الثقات من أهلِ العلم والحفظ في بعضِ ما رووا، وأمعَن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وُجِد كذلك، ثم زاد بعد ذلك شيئًا ليس عند أصحابِه قُبِلَت زيادتُه”.
فصرّحَ الإمام مسلم بأنَّ الثَّقةَ إذا أمْعَنَ في موافقةِ الثقات في حديثهم، ثم تفرَّدَ عنهم بحديثٍ قُبِلَ ما تفرَّد به، وحكاه عن أهل العلم.
وقال أيضًا: للزهري نحو تسعينَ حرفًا يرويه عن النبي صلي الله عليه وسلم لا يُشاركه فيه أحدٌ بأسانيدَ جيادٍ”(9).
فجوَّدَ أسانيدَ تفرَّدَ بها الزهريُّ، ولم يَطْعَنْ فيها لأجلِ التفرّد.
وقال الخليليّ: وأمّا الأفراد: فما يتفرّد به حافظٌ مشهورٌ ثقةٌ، أو إمامٌ عن الحفّاظ والأئمّة فهو صحيحٌ متفقٌ عليه… وما تفرَّد به غيرُ حافظٍ يُضعَّف من أجْلِه؛ وإنْ لم يُتَّهمْ بالكذِب(10).
فجعل الخليليّ التفرُّدَ ممَّن هم أهل الحفظ والإتقان والتَّثَبُّت مِن الصحيح المتّفق عليه.
وكذلك نقل الحاكم الاتّفاق على صِحّة الأفراد التي تفرَّد بها ثقةٌ من الثقات، وليس لها طرق أخرى، فقال: "والصحيح من الحديث منقسمٌ على عشرةِ أقسامٍ، خمسةٌ متّفقٌ عليها”، وذكر في القسم الرابع منها: "هذه الأحاديث الأفراد الغرائب الّتي يرويها الثقاتُ العدولُ، تفرَّدَ به ثقةٌ من الثِّقات، وليس لها طرقٌ مخرَّجةٌ في الكتب”(11).
وقال ابن رجبٍ: إن تصرُّفَ البخاريِّ ومسلم والأكثرين يدُلُّ على أنَّما رواه الثقة عن الثقة إلى منتهاه، وليس له علَّةٌ فليس بمنكرٍ(12).
وهذا هو المنهج الذي سار عليه المتأخّرون أيضًا.
فقال ابن الصلاح ـ رحمه الله تعالى ـ: "ثم إنَّ الغريبَ ينقسمُ إلى صحيحٍ كالأفرادِ المخرّجةِ في الصّحيح، وإلى غير صحيحٍ، وذلك هو الغالبُ على الغرائب(13).
فبيّن ابنُ الصّلاح أنَّ مِن الأفراد ما هو صحيحٌ، ومِنه ما هو ضعيفٌ، وليس التفرُّد علةً بذاتِه يُردُّ بها الحديثُ.
وقال الزيلعي: وانفرادُ الثّقةِ بالحديثِ لا يَضُرُّه(14).
وقال ابنُ حجرٍ: "وكمْ مِن ثقةٍ تفرَّدَ بما لم يشاركْه فيه ثقةٌ آخرُ، وإذا كان ثقةً حافظًا لم يضرَّه الانفرادُ”(15).
فهذه النُّقول من جهابذةِ النُّقَّادِ، وصَيَارفةِ هذا الفنِّ تدلُّ على أنَّ التعدُّدَ في طرق الحديث ليس شرطًا لصحَّته وقبوله، بل حكى الإمام مسلم مذهبَ أهل العلم في قبول ما يتفرَّدُ به الثّقة الحافظ، وكذلك نقل الحاكم والخليليّ الاتفاق على ذلك، وتبِعَهم ابنُ الصّلاح وغيرُه من المتأخِّرين على ذلك.
المبحث الثالث: صلة التفرّدِ المطلق بالشّاذ والمنكر.
أما صلة التفرُّد المطلق بالشّاذ، فالشّاذ له عدَّةُ تعريفاتٍ، أغلبُها يدُورُ حولَ التفرُّدِ، فهو عندَ جماعةٍ مِن الحفَّاظ التفرُّدُ مطلقًا، وعندَ بعضِهم هو تفرُّدُ الثِّقة عندَ احتمالِ وجود علَّةٍ فيه، وعند بعضهم: هو تفرُّدُ ضعيفٍ لا يُحْتَمُلُ تفرُّدُه، وهو أحدُ نَوْعَي الشّاذ والمنكر في الاصطلاح المعروف. وفيما يلي بيانُ ذلك.
قال الخليليُّ: والذي عليه حفَّاظُ الحديث: الشَّاذ: ما ليس له إلا إسنادٌ واحدٌ يَشُذٌّ بذلك شيخٌ ثقةً كان أو غيرَ ثقةٍ، فمَا كان عن غيرِ ثقةٍ فمتروكٌ، لا يُقبلُ، وما كان عن ثقةٍ يُتَوقَّفُ فيه(16).
وقال أيضًا: فمَا يتفرَّد به حافظٌ مشهورٌ ثقةٌ، أو إمامٌ عن الحفَّاظِ والأئمةِ فهو صحيحٌ متَّفقٌ عليه… وما تفرَّد به غيرُ حافظٍ يُضعَّف من أجْلِه، وإن لم يُتَّهمْ بالكذب(17).
فالخليليُّ عرَّفَ الشَّاذَ بمطلقِ التفرُّد، ينْفرِدُ به شيخٌ من الشيوخ. والشيوخُ في اصطلاح أهل العلم عبارةٌ عمَّنْ دونَ الأئمَّة والحفَّاظِ، وقد يكونُ فيهم الثِّقةُ، وغيرُه(18).
وقال ابنُ رجبٍ مبيِّنًا الفرقَ بين الشَّاذ والصّحيح عند الخليليّ: فرّقَ الخليليُّ بينَ ما ينفرِدُ به شيخٌ من الشيوخِ الثقاتِ، وبينَ ما يَنْفرِدُ به إمامٌ أو حافظٌ، فمَا انْفَرَدَ به إمامٌ أو حافظٌ قُبِلَ واحْتُجَّ بِه، بخِلافِ ما تفرَّدَ به شيخٌ من الشُّيوخِ، وحكى ذلك عن حُفَّاظِ الحديث(19). والله أعلم.
وقال الحاكمُ أبو عبد الله(20): الشَّاذ هو: حديثٌ يتفرَّدُ به ثقةٌ من الثِّقاتِ، وليس للحديث أصلٌ متابعٌ لذلك الثِّقة.
وقد زاد ابنُ حجرٍ فيه قَيْدًا، وهو أن ينْقدِحَ في نفسِ النَّاقدِ أنَّه غلطٌ، فقال(21): أُسْقِطَ من قولِ الحاكم قَيْدًا لابُدَّ منه، وهو أنّه قال: وينْقدِحُ في نفسِ النَّاقد أنَّه غلَطٌ، ولا يقدِرُ على إقامةِ الدَّليل على ذلك.
وقد عرّف ابنُ الصّلاح الشَّاذَ بنَوعَيْهِ، بالمخالفة، وبِتفرُّدِ الضعيف، فقال: "إنَّ الشَّاذ المردودَ قسمان: أحدُهما: الحديثُ الفردُ المخالَف، والثّاني: الفرْدُ الّذي ليس في راويه من الثِّقة والضّبط ما يقَعُ جابرًا لما يُوجِبُه التفرُّد والشذوذُ من النَّكارةِ والضَّعفِ”، والله أعلم(22).
وقد يدخل تعريفُ ابن الصلاح ضِمن تعريفِ الخليلي، لأنّه عرّف الشّاذَ بمطلقِ تفرُّدِ الشُّيوخ فمن دونهم، وقد يدخُلُ فيه تفرُّد الضَّعيف أيضًا، ولا يُنافي تعريفُه تعريفَ الحاكم، لأنّ الحاكم لا يجعلُ مُطلقَ تفرُّدِ الثِّقةِ شاذًّا، بل باحتمال وجود علَّةٍ فيه، كما بيّن ذلك ابنُ حجر.
وأما صلة التفرُّد المطلق بالمنكر،
إنّ المتقدِّمين غالبًا لا يُفرِّقون بينَ الشّاذ والمنكر، وقد حكم بعضُ الأئمّة النقاد على بعضِ الأفراد بالنّكارة كالقطّان، والإمام أحمد، وأبي حاتم، والبرديجي، وإطلاق النّكارةِ في كلام المتقدّمين أكثرُ منه في كلامِ المتأخّرين.
وقد جرى ابنُ رجبٍ على عدم التّفريق بين الشّاذ والمنكر، فقد حكى عن يحيى القطّان، والإمام أحمد، والبرديجي إطلاقهم النّكارة على التفرّد، ثم حمّل عليه تعريفَ الحاكم للشّاذ.
وأمّا أوّلُ من عرّفَ المنكر هو البرديجي(23) فقال: إنَّ المنكر: هو الّذي يُحدِّثُ به الرَّجلُ عن الصّحابة، أو عن التابعين، عن الصّحابة، لا يُعرَف ذلك الحديثُ وهو متنُ الحديث، إلا من طريقِ الّذي رواه فيكونُ منكرًا.
وقال ابنُ رجب معلِّقًا على هذا القول: وهذا كالتّصريح بأنّه كُلُّ ما ينْفرِد به ثقةٌ عن ثقةٍ، ولا يُعرَف المتن من غير ذلك الطريق فهو منكرٌ(24).
ولكن كلامُ ابن رجبٍ فيه نظر؛ فالبرديجيّ لا يرى مُطلقَ التفرُّدِ علَّةً في الحديث، ويؤيِّد ذلك قولُه: "إذا روى الثَّقةُ من طريقٍ صحيحٍ عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً، لا يُصَابُ إلّا عند الرّجلِ الواحد -لم يضُرَّه أن لا يرويَه غيرُه إذا كان متْنُ الحديثِ معروفًا، ولا يكونُ منكَراً ولا معلُولاً(25).
وأجابَ البقاعيُّ عن إطلاقِ البَرديجي في تعريفِ المنكر، فقالَ: ما أطْلَقَهُ البرديجيّ موجودٌ في كلامِ أحمد؛ فإنَّه يصِفُ بعضَ ما تفرَّد به بعضُ الثِّقات بالمنكر، ويحكُم على بعضِ رجالِ الصَّحِيحَين أنَّ لهم مناكيرَ، لكن يُعلم من استقراءِ كلامِه أنَّه لابُدَّ مع التفرّدِ من أن ينقدِحَ في النَّفسِ أنَّ لَه علَّةً، ولا يقوم عليها دليلٌ(26).
فلا بدّ مع التفرُّدِ من احتمالِ وجودِ علَّةٍ فيه.
وقد عرّفَ ابنُ الصلاح المنكر بتفرُّدِ الضّعيفِ، ولم يفرِّق بينه وبين الشّاذ جريًا على طريقِ المتقدّمين، فقال: فإن كان المنفرد به غيرُ بعيدٍ من درجة الحافظ الضّابط المقبول تفرُّده استحسنَّا حديثَه ذلك، ولم نحُطّه إلى قُبيل الحديثِ الضعيف، وإن كان بعيدًا من ذلك؛ رددنا ما انفرَد به، وكان من قُبيل الشّاذِ المنكر(27).
أدلة المعترضين والجواب عنها.
وأما الّذين يرَون أنَّ التفرُّدَ علَّةٌ يُردُّ بها الحديثُ، أو سببٌ للتوقُّف فيه؛ فقد استدلُّوا ببعض الأدلّةِ، منها: تعريفُ الحاكم والخليلي للشّاذ، وتعريفُ البرديجي للمنكر، وقد تقدّم الجوابُ عنها بأنّهم لا يرون التفرّدَ وحدَه علًّةً، بل لا بُدَّ من احتمالِ وجودِ علّةٍ فيه، أو تفرّد به مَن لا يُحتمَلُ تَفَرًّدُهُ.
وكذلك هم استدلُّوا بقولِ أبي داود: الأحاديث الّتي وضعتُها في كتاب السُّنن أكثرُها مشاهير… فإنّه لا يُحتجُّ بحديثٍ غريبٍ، ولو كان من رواية مالك، ويحيى بن سعيد، والثقات من أئمة العلم، ولو احتُجَّ بحديثٍ غريبٍ وجدْتُ من يطعنُ فيه، ولا يُحتجُّ بالحديثِ الَّذي قد احتُجَّ به إذا كان غريباً شاذاً”(28).
ويمكن أن يُجاب عنه: أنّه يُوجد في السُّنن كثيرٌ مِن أفرادِ الثّقات، بل فيه من أفراد الضُّعفاء ومن دونهم، ومع ذلك أنّه لم يطعَنْ فيها، ولم يُعِلِّها بالتَّفرُّدِ، مع أنّه اشترط في "السنن”: ما لم أذكُرْ فيه شيئًا فهو صالحٌ”(29). فلا بُدَّ أن يُؤولَ كلامُه بتأويلٍ سائغٍ.
وقد استدلَّ هؤلاء أيضًا ببعض الأمثلةِ التطبيقية التي حكم فيها يحيى بن سعيد القطان وأحمد على بعض أفراد الثقات بالنّكارة، ولكن جوابُه تقدّم في كلام ابن حجر الذي حكاه عنه تلميذه البِقاعي: "يُعلم من استقراء كلامِه أنّه لابُدَّ مع التفرُّد مِن أنْ ينقدِحَ في النّفس أنّ له علةً، ولا يقوم عليها دليلٌ”(30).
وقد قَبِلَ أحمد كثيرًا من الأحاديث الّتي تفرّد بها رواةٌ ثقاتٌ، فقدْ ذكر أبو داود أنّه قال للإمام أحمد: إسرائيل إذا انفرَد بحديثٍ يُحتجُّ به؟ قال: إسرائيل ثَبْتُ الحديث(31).
قال الحسن بن محمد الزعفراني: قلتُ لأحمد بن حنبل: من تابع عفانًا على حديث كذا وكذا؟ قال: وعفّان يحتاج أنْ يُتابِعه أحدٌ-أو كما قال-(32).
فهذه النّقول تدُلُّ على قبول الإمام أحمد للأفرادِ إذا اطمأنَّ لضبطِ رُواتِها.
المبحث الرابع: حكم التفرّد النِسْبي.
قال ابنُ الصّلاح: وأما الثّاني: وهو ما هو فردٌ بالنِّسبة، فمِثْلَمَا يَنْفرِد به ثقةٌ عن كلّ ثقةٍ، وحُكمُه قريبٌ من حكم القسم الأول (الفرد المطلق)، ومثلما يقال فيه: ” هذا حديث تفرّد به أهلُ مكة، أو: تفرّد به أهلُ الشام، أو: أهل الكوفة، أو: أهل خراسان، عن غيرهم…وليس في شيء من هذا ما يقتضي الحُكم بضعفِ الحديث، إلا أنْ يُطلِق قائلٌ قولَه: تفرَّد به أهلُ مكة، أو تفرَّد به البصريّون عن المدنيّين "، أو نحو ذلك على ما لم يروِه إلا واحدٌ من أهل مكّة، أو واحدٌ من البصريّين ونحوه…فيكون الحكم فيه على ما سبق في القسم الأول، والله أعلم(33).
المبحث الخامس: صلة التفرّد النِّسبي بعلم العلل.
تعريف الحديث المُعَلّ: قال ابنُ الصّلاح: هو الحديث الذي اطُّلِعَ فيه على علّةٍ تقدحُ في صحَّتِه مع أنَّ ظاهرَه السَّلامةُ منها، ويتطرَّق ذلك إلى الإسنادِ الَّذي رِجالُه ثقاتٌ، الجامِعُ لشروطِ الصِحَّةِ من حيثُ الظاهر(34).
فالحديثُ المُعلّ، هو الّذي يغلِب على ظنِّ القارئِ أنَّه صحيحٌ، خالٍ من أيّ قادحٍ؛ بل ومستوفيً تماماً شروطَ الحديثِ الصحيحِ، لكنْ مع هذا تكون هناك علّةٌ خفيّةٌ لا يتفطّن إليها إلاَّ ذوو الاختصاصِ من الحفّاظ والنقّاد.
قال الحاكم: "وإنَّما يُعلّل الحديثُ من أوجهٍ ليس للجرحِ فيها مدخلٌ، فإنَّ حديثَ المجروحِ ساقطٌ واهٍ وعلّةُ الأحاديث تكْثُرُ في أحاديثِ الثّقات، أنْ يُحدِّثوا بحديثٍ له علّة فيخفى عليهم علْمُه فيصير الحديثُ معلولاً، والحُجَّة فيه عندنا الحفظُ والفهم والمعرفة لا غير(35).
أما صلة التفرُّد النسبي بعلم العِلَل: فالأئمّة النُقّاد كثيرًا ما يُعِلُّون أحاديثَ الثّقاتِ بالتفرُّد، ويقصِدون به التفرُّد النِّسبي.
قال ابن الصّلاح: "يُستَعانُ على إدراكِها بتفرُّدِ الرّاوي وبمُخالفةِ غيرِهِ له، مع قرائنَ تنضم إلى ذلك تُنبِّهُ العارِفَ بهذا الشأْنِ على إرسالٍ في الموصولِ، أو وقفٍ في المرفوع، أو دخولِ حديثٍ في حديثٍ، أو وهمِ واهمٍ بغير ذلك، بحيثُ يغلِبُ على ظنِّه ذلك، فيحكُم به، أو يتردَّدُ فيتوقّفُ فيه(36).
فالّذي يُفهم من كلامِ ابن الصّلاح أنّ العلَّةَ –لا سيّما الواقعة في حديثِ الثّقات-تُدرَك؛ بتفرُّدِ الرّاوي، وبِمخالفَتِهِ لغيرِه مِن الرّواةِ، مع قرائنَ وأماراتٍ تُرجِّحُ للنّاقدِ أنَّ هذا التفرُّدَ والمخالفةَ ناتجانِ عن الخطأِ والوهَمِ، وأنّ الراوي لم يكن ضابطًا لِمَا رواه على هذا الوجْه، وإن كان ثقةً مقبولًا بصفةٍ عامّةٍ.
فمدارُ العلّةِ إذًا هو التفرُّد أو التفرُّد مع المخالفة، وأيُّ علَّةٍ أو وهمٍ أو خطأٍ في الرّواية يعُود في حقيقته ليندرِجَ تحتَ تفرُّدِ راويه أو مخالفتِه. والحقيقةُ أنّ المخالِفة الواقعةَ مِن الرّاوي مندرجةٌ ايضًا في التفرّد، وهي فرع عنه. إذ كلّ مخالفٍ في الرواية-لغيره من الرّواة الّذين رووا الحديث ذاته-متفرّد عنهم.
فالتفرّد أو التفرّد مع المخالفة من أهمِّ الأسباب لإدراك العِلَلِ الخفيَّةِ الغامضةِ في الحديث، وهذا الّذي يربِطُ التفرُّد النِّسبي بعِلم العِلَل.
متى يحكُم على تفرُّد الثّقة أو الصّدوق بالشذوذ أو النّكارة؟
التفرّد وحدَه ليس علّةً ولكنّه مِظَنّةٌ لها، فإذا وُجِدتْ قرينةٌ تجعل النّاقِدَ يحكم على حديثِ الثّقة أو الصّدوق بالشذوذ أو النّكارة لأنّه قد انقدَح في نفسه أنّ ذلك الحديث غلَطٌ، وفي الأكثر لا يُبَيِّن سبَبَ ذلك.
ومن القرائن التي تجعل النّاقد يتردّد في قبول تفرّد الثقة أو الصدوق:
1- أن يكون انفرد عن الزهري وأمثالِه ممّن يُجمع حديثُه.
قال مسلمٌ: إنّ المنكر أنْ يعمَد الرّجل إلى مثلِ الزهري في كثرة الأصحاب، فينفرِدُ من بينهم عنه بروايةِ حرفٍ لا يُوجد عند أحدٍ منهم، فمثلُ هذا يقوم في النَّفس فيه ريبةٌ لمجرّد التفرّد، وقد لا يقدِرُ على التعبير عنها.
2- أنْ يكونَ انفرَد بأصلٍ أو حُكمٍ من الأحكام المهمّة ولم يشاركْه فيه أحدٌ.
قال الحاكم أبو عبد الله(37): الشّاذ هو: حديثٌ يتفرّد به ثقةٌ من الثقات، وليس للحديثِ أصل متابع لذلك الثقة.
3- تفرّد متأخِّرِ الطبقةِ، ولو كان ثقةً، وكلّما تأخَّرتْ طبقةُ المتفرِّد كُلَّما قوِي احتمالُ ردِّه. كما قال الذهبي أنّ تفرّد التابعي مقبولٌ، ولا يُشدَّد فيه، ويتدرج التشدد في التفرّدات كُلّما بعد الزمن عن عصرِ النبوّة، وتأخَّرتِ الطّبقة(38).
الخاتمة: من أهمّ النتائجِ التي توصّلتُ إليها من خلال البحث:
1- الغريب: هو ما يتفرّد بروايته شخصٌ واحدٌ؛ في أي موضع وقع التفرّد به من السّند.
2- الأفرادُ منقسمةٌ إلى ما هو فردٌ مطلقًا، وإلى ما هو فردٌ بالنسبة إلى جهةٍ خاصّةٍ.
3- لا فرقَ بين الغريبِ والفرد إلا من حيثُ كثرةِ الاستعمال وقِلّتِه، فالفردُ أكثر ما يُطلقونه على الفرد المطلق، والغريبُ أكثر ما يطلقونه على الفرد النسبي.
4- ذمّ العلماء للغرائب والأفراد يُحمَلُ على تفرُّدِ من لا يُحتمل تفرّدُه.
5- نقلُ غيرُ واحدِ من العلماء الإجماعُ على قبولِ خبرِ الثقةِ.
6- أنّ التفرُّدَ ليس علةً بذاته يُردُّ به الحديثُ، ولكنّه مِظنّةٌ لها.
7- وقد يحكم النّاقد على حديثِ الثقة والصدوق بالشّذوذِ والنّكارة إذا انقدح في نفسه أنّه غلّط. قال ابن حجر: يُعلم من استقراءِ كلامِه أنّه لابُدَّ مع التفرّدِ من أن ينقدِح في النّفس أنّ له علةً، ولا يقوم عليها دليلٌ، كما نقل عنه البقاعي(39).
المصادر والمراجع:
(1) ينظر: فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (1/ 268)، وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي (2/ 633).
(2) نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر ت الرحيلي (ص: 66).
(3) شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي (ص: 126).
(4) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (2/ 100)
(5) شرح علل الترمذي (2/ 623).
(6) النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (1/ 368).
(7) مقدمة ابن الصلاح (ص: 13).
(8) صحيح مسلم (1/ 7).
(9) ينظر: صحيح مسلم (3/ 1268، رقم الحديث: (1647).
(10) الإرشاد في معرفة علماء الحديث للخليلي (1/ 167،169).
(11) المدخل إلى كتاب الإكليل (ص:33/ 39).
(12) شرح علل الترمذي (2/ 657).
(13) مقدمة ابن الصلاح (ص: 270).
(14) نصب الراية (1/ 74).
(15) فتح الباري لابن حجر (5/ 11).
(16) الإرشاد في معرفة علماء الحديث للخليلي (1/ 176).
(17) الإرشاد في معرفة علماء الحديث للخليلي (1/ 167،169).
(18) شرح علل الترمذي لابن رجب (2/ 103).
(19) شرح علل الترمذي لابن رجب (2/ 104).
(20) معرفة علوم الحديث للحاكم (ص: 119).
(21) النكت الوفية (149 / أ)، وقد أخذ البقاعي غالب مادة كتابه هذا عن شيخه ابن حجر كما نصّ ذلك في مقدمة كتابه. ينظر: النكت الوفية (1/ 52).
(22) مقدمة ابن الصلاح (ص: 78-79).
(23) كما قال ابن رجب. شرح علل الترمذي (2/ 98).
(24) شرح علل الترمذي لابن رجب (2/ 98).
(25) شرح علل الترمذي لابن رجب (2/ 99).
(26) النكت الوفية (149 / أ).
(27) مقدمة ابن الصلاح (ص: 78-79).
(28) شرح علل الترمذي لابن رجب (2/ 72).
(29) رسالة أبي داود إلى أهل مكة (ص: 27).
(30) النكت الوفية (149 / أ).
(31) سؤالات أبي داود للإمام أحمد (ص: 311).
(32) تاريخ بغداد (12/ 268).
(33) مقدمة ابن الصلاح (ص: 88)
(34) مقدمة ابن الصلاح (ص: 90).
(35) معرفة علوم الحديث للحاكم (ص: 113).
(36) مقدمة ابن الصلاح (ص: 90).
(37) معرفة علوم الحديث للحاكم (ص: 119).
(38) ينظر: الموقظة في علم مصطلح الحديث (ص: 77).
(39) النكت الوفية (149 / أ).



قرآن اور علوم قرآن کے بعد سب سے افضل و اشرف علم، علم حدیث اور علم مصطلحات حدیث ہے۔ بدقسمتی سے یہ علم بر صغیر ہند و پاک میں مٹ جانے کے دہانے پر آ لگا ہے ۔ علوم حدیث کے جس گوشے پر آپ خامہ فرسائی کی ہے، اس پر قابلِ صد مبارک باد ہیں ۔یہ علوم الحدیث کی وہ شق ہے جسے سمجھنے میں اچھا خاصا پسینہ بہتا ہے ۔آپ اس کے ما لہ و ما علیہ جس مدلل انداز میں واضح کیا ہے، اس سے آپ کی محنتِ شاقہ واضح ہو رہی ہے ۔اللہ تعالیٰ آپ کو… Read more »
Md Ibrahim Sajjad Taimi
جزاکم اللہ خیرا وبارک فیکم استاد محترم!
بارك الله في علمكم وعملكم ، ونفع بكم الأمة وكشف الغمة…