كتفا لكتف مع أبي القاسم الشابي ضد الطغاة

شمس الرب خان الافتتاحية

إن اسم أبي القاسم الشابي متعدد الأنغام في ذهن متذوق للأدب العربي الحديث وبخاصة شعره. اسمه مرتبط بألوان المأساة البدنية والنفسية في الحياة الشخصية، وأنواع العبقرية الفذة في الحياة الأدبية الإنتاجية. نقرأ عن حياته فنجده محملا بالبؤس والشقاء في جسمه ونفسه إلى درجة معوقة، ونتخيل أن هذا الإنسان لا يستطيع أن يفعل شيئا مذكورا في حياته، وبخاصة حينما نعلم أنه عاش خمسا وعشرين سنة فقط، خمسا وعشرين سنة فقط! كم كان قصيرا عمره، وكم كان نحيفا جسمه، وكم كان معانا من شتى ألوان المحن! لو لم يفعل شيئا ومات صامتا خامل الذكر مغمورا عليه لأعذرناه فرحين مسرورين.
ولكنه هو الشابي! فرغم جميع ما عانى من أصناف البلاء والشقاء، أنتجت غريزته الفياضة أشعارا خلدت ذكره ومآثره، ولا نزال مغرمين به متأثرين بفنه كأنه ترجمان قلوبنا وسلوان أرواحنا.
كان الشابي فنانا لاقى ضعفه المدقع ولكنه لم يستسلم له بل أخضعه وجعله قوة ملهمة. كان مبتلى بمرض تضخم القلب ولكنه لم ييأس بل جعل قلبه معزفا يصدر ألحانا عذبة متفائلة مملوءة بالحياة والأمل تتغلغل في أعماق قلوب الناس، وتملأها من موسيقى الحياة الخلابة، وتجعلها مفعمة بالعزم المتصلب والبطولة المغامرة والشجاعة الخارقة ولون عجيب من الإصرار العنيد على الحياة:
إِذا الشَّعْبُ يوماً أرادَ الحياةَ
فلا بُدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القدرْ
ولا بُدَّ للَّيْلِ أنْ ينجلي
ولا بُدَّ للقيدِ أن يَنْكَسِرْ
ومَن لم يعانقْهُ شَوْقُ الحياةِ
تَبَخَّرَ في جَوِّها واندَثَرْ

ومن لا يحبُّ صُعودَ الجبالِ
يَعِشْ أبَدَ الدَّهرِ بَيْنَ الحُفَرْ

هو الكونُ حيٌّ يحبُّ الحَيَاةَ
ويحتقرُ الميْتَ مهما كَبُرْ
فلا الأُفقُ يَحْضُنُ ميتَ الطُّيورِ
ولا النَّحْلُ يلثِمُ ميْتَ الزَّهَرْ

مات والده وأثقل وجوده المهموم المبتلى بمزيد من الأشجان والأوزار، فحول مشاعره الشجية إلى فن أثر وقعه في ملايين الحياة، وهذبها وثقفها ورققها وجعلها إنسانية آفاقية! كان يعاني من مرض فتاك، وزاد الطين بلة أنه أضاف إلى قائمة أعدائه بآرائه الصريحة الجريئة في كتيبه "الخيال الشعري عند العرب”، فانتفض مخالفوه غضبا وهجموا عليه هجوما لاذعا. ولكنه رغم ذلك كله، لم ينزعج وأعلن عن إصراره على العيش شامخا ولو أجمعت الدنيا بأسرها على إرغامه على قبول الذل والخنوع. أنقل لكم قصيدته ‘نشيد الجبار’ كاملا، ولدي يقين بأنكم لا تشبعون منها رغم طولها، وستتغنون بها بعفوية مطردة انسجاما مع روح الشاعر البطل:
سَأعيشُ رَغْمَ الدَّاءِ والأَعداءِ
كالنَّسْر فوقَ القِمَّةِ الشَّمَّاءِ
أرْنُو إلى الشَّمْسِ المُضِيئةِ هازِئاً
بالسُّحْبِ والأَمطارِ والأَنواءِ
لا أرْمقُ الظِّلَّ الكئيبَ ولا أرَى
مَا في قَرارِ الهُوَّةِ السَّوداءِ
وأَسيرُ في دُنيا المَشَاعرِ حالِماً
غَرِداً وتلكَ سَعادةُ الشعَراءِ
أُصْغي لمُوسيقى الحَياةِ وَوَحْيِها
وأذيبُ روحَ الكَوْنِ في إنْشَائي
وأُصيخُ للصَّوتِ الإِلهيِّ الَّذي
يُحْيي بقلبي مَيِّتَ الأَصْداءِ
وأقولُ للقَدَرِ الَّذي لا ينثني
عَنْ حَرْبِ آمالي بكلِّ بَلاءِ
لا يُطْفِئُ اللَّهبَ المؤجَّجَ في دمي
موجُ الأسى وعواصفُ الأَزراءِ
فاهدمْ فؤادي ما استطعتَ فانَّهُ
سيكون مثلَ الصَّخرة الصَّمَّاءِ
لا يعرفُ الشَّكوى الذليلَة والبكا
وضراعَة الأَطفالِ والضّعفاءِ
ويعيشُ جبَّاراً يحدِّق دائماً
بالفجر بالفجرِ الجميلِ النَّائي
إِملأْ طريقي بالمخاوفِ والدُّجى
وزوابعِ الأَشواكِ والحصباءِ
وانْشر عليه الرُّعب وانثر فوقه
رُجُمَ الرَّدى وصواعقَ البأساءِ
سَأَظلُّ أمشي رغمَ ذلك عازفاً
قيثارتي مترنِّماً بغنائي
أَمشي بروحٍ حالمٍ متَوَهِّجٍ
في ظُلمةِ الآلامِ والأَدواءِ
النُّور في قلبي وبينَ جوانحي
فَعَلامَ أخشى السَّيرَ في الظلماءِ
إنِّي أنا النَّايُ الَّذي لا تنتهي
أنغامُهُ ما دام في الأَحياءِ
وأنا الخِضَمُّ الرحْبُ ليس تزيدُهُ
إلاَّ حياةً سَطْوةُ الأَنواءِ
أمَّا إِذا خمدت حياتي وانقضى
عُمُري وأخرسَتِ المنيَّةُ نائي
وخبا لهيبُ الكون في قلبي الَّذي
قد عاش مِثْلَ الشُّعْلَةِ الحمراءِ
فأنا السَّعيد بأنَّني مُتحوِّلٌ
عن عالمِ الآثامِ والبغضاءِ
لأذوبَ في فجر الجمال السرمديِّ
وأرتوي من مَنْهَلِ الأَضواءِ
وأَقولُ للجَمْعِ الَّذين تجشَّموا
هَدْمي وودُّوا لو يخرُّ بنائي
ورأوْا على الأَشواكِ ظلِّيَ هامِداً
فتخيَّلوا أَنِّي قضيْتُ ذَمائي
وغدوْا يَشُبُّون اللَّهيبَ بكلِّ ما
وجدوا ليشوُوا فوقَهُ أشلائي
ومضَوْا يَمُدُّونَ الخُوَانَ ليأكلوا
لحمي ويرتشفوا عليه دِمائي
إنِّي أقولُ لهمْ ووجهي مُشرقٌ
وعلى شفاهي بَسْمَةُ استهزاءِ
إنَّ المعاوِلَ لا تَهُدُّ مناكبي
والنَّارَ لا تأتي على أعضائي
فارموا إلى النَّار الحشائشَ والعبوا
يا مَعْشَرَ الأَطفالِ تحتَ سَمائي
وإذا تمرَّدتِ العَواصفُ وانتشى
بالهولِ قلْبُ القبَّةِ الزَّرقاءِ
ورأيتموني طائراً مترنِّماً
فوقَ الزَّوابعِ في الفَضاءِ النَّائي
فارموا على ظلِّي الحجارةَ واختفوا
خَوْفَ الرِّياحِ الْهوجِ والأَنواءِ
وهناكَ في أمنِ البيوتِ تطارحوا
غَثَّ الحديثِ وميِّتَ الآراءِ
وترنَّموا ما شئتمُ بِشَتَائمي
وتجاهَروا ما شئتمُ بعِدائي
أمَّا أنا فأُجيبكمْ مِنْ فوقكمْ
والشَّمسُ والشَّفقُ الجميل إزائي
مَنْ جَاشَ بالوحي المقدَّسِ قلبُه
لم يحتفل بحِجَارةِ الفلتاءِ

أحس بأقدام الموت تقترب منه فلم يفزع بل رش على الموت ألوان البطولة والرومانسية، واحتضنه كبوابة تنجيه من الشقاء المؤقت، وتوصله إلى السعادة الأبدية السرمدية، فيبتسم للموت والموت يبتسم له، ويمد أجنحته ليرحب بالموت ويجربه كما رحب بالحياة وجربها من قبل:
الْوَداعَ الوَداعْ
يا جِبَالَ الهُمومْ
يا ضَبابَ الأَسى
يا فِجاجَ الجحيمْ
قَدْ جرى زَوْرَقي
في الخِضَّمِ العَظيمْ
ونشرتُ القلاعْ
فالوَداعْ الوداعْ

أمَّا إِذا خمدت حياتي وانقضى
عُمُري وأخرسَتِ المنيَّةُ نائي
وخبا لهيبُ الكون في قلبي الَّذي
قد عاش مِثْلَ الشُّعْلَةِ الحمراءِ
فأنا السَّعيد بأنَّني مُتحوِّلٌ
عن عالمِ الآثامِ والبغضاءِ
لأذوبَ في فجر الجمال السرمديِّ
وأرتوي من مَنْهَلِ الأَضواءِ

وزهورُ الحياة تهوي بِصَمْتٍ
محزنٍ مُضْجِرٍ على قدميَّا
جَفَّ سِحْرُ الحَيَاةِ يا قلبيَ البا
كي فهيَّا نُجَرِّب الموتَ هيَّا

كان الشابي رومانسي النزعة وحفر في أعماقه ليتلمس لإنتاجاته مصادر الإلهام ومنابع الفيض، ولكنه لم يجعل رومانسيته مهربا مما كان يدور حوله من الظلم والطغيان والاستغلال والاستعباد. فمهما نحف بدنه، وهمس هوته، وتهدم بنيان كيانه، واعتلى بالعلل، ولكنه كان أسدا يزأر بالحق في وجوه الطغاة. كان لا يخاف من أفاعي الظلم، بل يتحداهم، وينشد أنغام الحق على رغم أنوفهم، ويريهم ما كسبت أيديهم، ويهددهم بعواقبهم الوخيمة، ويعدهم بمصيرهم المؤلم.
بقدر مذهل من الجرأة والصراحة، يخبر الشابي الظالمين المستبدين الطغاة ما هم حقا مهما لبسوا من الأثواب المطلية بأسمائهم ذهبا، ومهما موهوا مظاهرهم بالمجملات والمزينات المستوردة، ومهما نوهوا بالشعارات واللافتات الزائفة الخادعة، ومهما ادعوا بأن الأصوات الجماهيرية في حقهم. فهم الطغاة الظالمون الذين يبدعون في إلحاق الضرر بالناس وتعذيبهم. يقول الشابي، ولننشد معه في صوت جهوري ليسمع الطغاة الظالمون أينما كانوا:
أَلا أَيُّها الظَّالمُ المستبدُّ
حَبيبُ الظَّلامِ عَدوُّ الحيَاهْ
سَخرْتَ بأَنَّاتِ شَعْبٍ ضَعيفٍ
وكَفُّكَ مخضوبَةٌ من دمَاهْ
وسِرْتَ تُشَوِّهُ سِحْرَ الوُجُودِ
وتبذُرُ شوكَ الأَسى في رُبَاهْ

هل تسمع، أيها الظالم! هل تسمع! رغم كل الأضواء التي اشتريتها لتنير وجهك القذر، أنت ووجهك وجميع وجودك مظلم حالك!
تدعي أنك تسعد حينما يسعد الإنسان، والحقيقة أنك تعادي الحياة ويؤذيك حتى رجل واحد يعيش بهدوء وطمأنينة!
إنك بلا شك تتمتع بقوة الابتداع والابتكار، وهذا يتجلى بوضوح في الطرق التي تخترعها لتذل الناس وتعذبهم وتميتهم ألما، ثم تراهم محطمين فتضحك عليهم وتسخر منهم! يا لك من انعدام الضمير، أيها النذل!
والأطرف أنك سلمي مسالم رغم أنك قد أغرقت الناس الأبرياء في الدماء، ونظمت مذبحة جماعية تبيد المستضعفين المقهورين، ثم تأتي وتجعل من تلك المذبحة سلما لصعود أسمى المنازل وأعلى الرتب! يا لك من الويل، أيها الداهية!
تزرع الأشواك في حقول الزارعين وتستبدل سعادتهم بالشقاء لترضي من ربوك ووضعوا رباط الكلب حول عنقك. أنت، أيها المستبد، نقطة سوداء في قلب الأرض وقذارة منتنة في روح الكون كله! هذا أنت، أيها الظالم رغم صخب ولغط جميع الغوغائيين الأوغاد الذين جمعتهم حولك لتزين بهم سمعتك!
شاعرنا الشابي لا يقف عند هذا، بل يتعداه إلى ما تخدع الظالمين وتغرهم من المظاهر الخارجية التي تبدو هادئة:
رُوَيْدَكَ لا يخدعنْك الرَّبيعُ
وصحوُ الفضاءِ وضوءُ الصَّباحْ

أنت تشاهد مغريات الربيع، فتتصور أن كل شيء جميل؟ أنت ترى السماء صافية، والصباح مستنيرا مستبشرا، فيغرك هذا؟ لا تنخدع بهذه المظاهر الخادعة، أيها المغرور. استمع إلى ما يقوله الشابي الحساس المدرك للواقع المستتر تحت قناع المظاهر:
ففي الأُفُق الرَّحْبِ هولُ الظَّلامِ
وقصفُ الرُّعُودِ وعَصْفُ الرَّياحْ

السماء الواسعة التي تراها صافية وتستأنس إليها، تكن في أحشائها الظلام الكالح والدمار الشامل والعذاب الشديد. ستقصف عليك السماء بالرعود التي تحرقك وتجعلك فحما، وستهب العاصفة التي تقتلعك من جذورك وترميك إلى الهاوية!

حَذارِ فَتَحْتَ الرَّمادِ اللَّهيبُ
ومَنْ يبذُرِ الشَّوكَ يَجْنِ الجراحْ

يا من أحرق القرى والمدن وجعلها رمادا! يا من بذر الأشواك في الحقول وحياة الناس وحولهما إلى مزارع المحن والآلام! توقف واعلم أن النار مؤججة تحت الرماد وستشتعل وتحرقك حتى نهايتك، وانتبه أن الأشواك التي زرعتها ستثقب أقدامك أنت وتجرح كيانك أنت جرحا بليغا!

تأَمَّلْ هنالِكَ أَنَّى حَصَدْتَ
رؤوسَ الوَرَى وزهورَ الأَملْ
وَرَوَّيْتَ بالدَّمِ قَلْبَ التُّرابِ
وأَشْربتَهُ الدَّمعَ حتَّى ثَمِلْ

تعال وانظر! هذا هو المكان الذي قتلت فيه الناس قتل سفاح، ودست فيه على آمالهم بمنتهى القساوة والشراسة، وجعلتهم فيه يبكون بكاء النهر المائج، وأرقت فيه دماء الأبرياء إراقة مثخنة متواصلة أشبعت الأرض وأسكرتها.

سيجرُفُكَ السَّيْلُ سَيْلُ الدِّماءِ
ويأْكُلُكَ العَاصِفُ المشتَعِلْ

هذه هي الجرائم الفادحة التي اكتسبتها أيها الظالم الطاغي المغتر بقوته، وستنال جزاءك موفورا غير منقوص!
تأكد من مصيرك! سيجعلك ظلمك وغرورك تبنا تافها، وماء موبوءا، وهشيما محروقا، وهباء منثورا، ورمادا مذرورا، وعصفا مأكولا!
تربص فأنا وأخي الشابي متربصان، وبمصيرك المؤلم موقنان!!
دمت يا أخي الشابي! كانت مرافقتك حلوة! شكرا، وإلى اللقاء!

1
Leave a Reply

avatar
3000
1 Comment threads
0 Thread replies
0 Followers
 
Most reacted comment
Hottest comment thread
1 Comment authors
السلفي السوداني Recent comment authors
  Subscribe  
newest oldest most voted
Notify of
السلفي السوداني
Guest
السلفي السوداني

يؤسفني أن تمجد مجلة تنتسب لأهل الحديث أبا القاسم الشابي
بل وتذكر بيته الشعري المخالف لعقيدة الإسلام
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
وتتكلم ن عن الطغاة فإما أن يكونوا حكاما مسلمين فالواجب السمع والطاعة لهم حتى لو ظلموا
كتبه السلفي السوداني