لم أكن على معرفة به تستأهل أن تسمى معرفة لأنني لم أقابله وجها لوجه إلا مرة وتكلمت معه على الهاتف مرتين. قابلته للمرة الوحيدة في مؤتمر عقده قسم اللغة العربية بجامعة مومبائي سنة 2019 م. ألفيته مبتسم الوجه، ملتمع العينين، ساطع الجبهة، تألف إليه القلوب، وتأنس إليه الأرواح، وتطمئن إليه النفوس. وجدته واضح الكلام، وقورا في تعامله مع الناس، مشجعا للطلبة. كان ذكاؤه الحاد يشع من ملامح وجهه، وكان يقظا لبيئته. كان حاضرا في الجلسة حينما عرضت ملخص بحثي في المؤتمر. وبعد أن تم المؤتمر وخرجنا جميعا خارج القاعة، بدأ هو بالتكلم معي وسألني التفاصيل عني. كم كان متواضعا بعيدا عن التكلف، رحمه الله رحمة واسعة.
أثناء الحوار، سألني عن المنهج الدراسي للغة العربية في الكلية التي أقوم بالتدريس فيها؛ وحينما أخبرته عنه أعرب عن قلقه على إدراج المواد الأدبية الكلاسيكية المعقدة في منهج اللغة العربية على مستوى الكلية قبل أن يتقن الطلاب اللغة العربية، الذي كان سببا من أسباب نفور الطلاب من اللغة العربية والقلة المتزايدة لعدد الطلاب الراغبين في تعلمها. ثم أبدى رغبته على الملأ علنا بأنه ينبغي أن تتخذ خطة منظمة على صعيد الهند لتشكيل المنهج الدراسي للغة العربية في نمط يشوق الطلبة في اللغة ويحفزهم لكسب البراعة فيها. كان رحمه الله مهتما بأمر اللغة العربية في الهند وكان لديه رأيه في ترسيخ مكانتها وإعلاء شأنها.
بعد هذا اللقاء ببضعة شهور، اتصل بي الدكتور جمشيد أحمد الندوي، أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية في جامعة مومبائي وأخبرني بأن الأستاذ ولي أختر الندوي قد أرسل إليك هدية بنسخة لكتابه في الجزأين المسمى "تعليم اللغة العربية: طريقة عملية”
(A PRACTICAL APPROACH TO THE ARABIC LANGUAGE, A BOOK OF GRAMMAR & EXERCISES).
لا يمكن أن أصف كم سرني هذا العمل النبيل. أستاذ كبير يشهد له الجميع بالعلم والفضل ويعتبر من أهم شخصيات اللغة العربية في الهند، يذكر أحد صغار المعلمين الذي لم يعرفه إلا معرفة ضئيلة طائشة قبل بضعة شهور، ويهدي إليه. أكبرت منه هذا الموقف وتكلمت معه على الهاتف أشكره. وفي الجواب رحب بي وقال قولا كريما. كان رحمه الله كريما يعلم كيف يشجع الصغار ويربيهم ليواصلوا هم المسيرة المستقبلية.
تشجعت من نبله وتواضعه وانتشلت فرصة أخرى لأتكلم معه. قرأت الكتاب المذكور للأستاذ ولي أختر الذي كان أهداه إلي أي "تعليم اللغة العربية: طريقة عملية”
( A PRACTICAL APPROACH TO THE ARABIC LANGUAGE, A BOOK OF GRAMMAR & EXERCISES)
فوجدته من أفضل ما كتب باللغة الإنجليزية عن قواعد اللغة العربية في الهند من حيث المادة وتنسيقها. اختار الكاتب في هذا الكتاب نمطا سهلا تدريجيا لتعليم قواعد اللغة العربية لغير الناطقين بها واستخدم أمثلة ملائمة كافية مع ترجمتها وتجزئتها في صورة جذابة، ثم قام بتحليل الأمثلة المطروحة وعرض قواعد في ضوئها بشكل منظم متين رصين. وفي آخر كل درس، جاء بتمرينات متعلقة تعضد ما تعلم القارئ من القواعد وتربطها بالاستعمال. رأيت أن هذا الكتاب ينفع الناشئين في اللغة العربية ويستأهل لأن أضعه في حسابي لإحالة الطلبة إليه، فقررت أن أشتري نسخة من الكتاب لمكتبة كليتنا. كانت هذه فرصة لأتكلم مع الأستاذ ولي أختر ثانية. رحب بي كعادته واستفسر عن أحوالي وأرشدني إلى دار النشر التي يمكن شراء الكتاب منها. كانت هذه آخر مرة تكلمت معه على الهاتف.
رأيته وسمعته لآخر مرة على شاشة الجوال في المحاضرة الافتراضية عبر منصة ‘زوم’ التي عقدها مركز اللغة العربية والدراسات الإفريقية بجامعة جواهر لال نهرو بتأريخ ٢٣ مايو، ٢٠٢٠ في الساعة الثانية ظهرا حول الموضوع "استخدام التكنولوجيا في تعليم اللغة العربية” من قبل الدكتورة نورة علي أحمد خليل، محاضرة بجامعة الإمارات العربية المتحدة، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة. كنا نستمع إلى المحاضرة إذ تعرضت الشبكة للانقطاع لوقت قصير كنا ننتظر أثناءه استعادة الشبكة واستئناف المحاضرة من جديد. كنا كذلك إذ سمعنا صوتا من الدكتور ولي أختر يستفهم منظم المحاضرة ويستجليه عن أسماء بعض التقنيات التي ذكرتها المحاضرة ولم يستطع سماعها بوضوح تام لخلل في الشبكة. عظمت في نفسي هذا الموقف ورأيت كم كان حريصا على إعمال الوقت وعلى عدم تضييعه. كانت هذه آخر مرة رأيته فيها أو سمعت منه.
بعد الساعة الأولى بدقائق ظهرا في اليوم التاسع من يونيو، ٢٠٢٠، ظهرت في مجموعة "اتحاد أساتذة وعلماء اللغة العربية لعموم الهند” رسالة من أحد أعضائها تخبر بأن الأستاذ ولي أختر مريض ويرجى من الأعضاء الدعاء له بالشفاء. فانهالت في المجموعة أدعية له كما لم يعهد من قبل، وهذا يدل على مدى شعبيته وقبوله لدى أساتذته، وزملاؤه، وأسرة اللغة العربية في عمومها، ولا ينال هذا الاهتمام إلا من عاش مخلصا لعمله مرضيا عنه.
ثم حوالي الساعة السابعة مساء من ذلك اليوم نفسه، جاء ذلك النبأ المفاجئ بوفاة الأستاذ ولي أختر الذي صدم الجميع ولم يكد يصدقه أحد. هل من المعقول أن يموت بهذا العمر وبهذا الشكل المفاجئ؟ ولكن لاح لنا بعد قليل أن قدر الله مقدور لا يتزحزح، وعلينا أن نتقبله بالرضا والاستسلام والدعاء للفقيد بالرحمة من الله ومغفرته.
التفاصيل التي جاءت لاحقا عن اليوم الذي توفي فيه الأستاذ ولي أختر مؤلمة جدا. فعلم من أسرته وأقربائه وأصدقائه ومعارفه وبعض وسائل الإعلام أنه طاف منذ صباح ذلك اليوم على سبع مستشفيات كبيرة في مدينة دلهي، عاصمة الهند للعلاج ورفضت جميعها إدخاله للعلاج قائلة بأن السرير لا يوجد، ثم اضطر إلى الدخول في مستشفى "الشفاء” الذي لم يكن معدا ومجهزا للمصابين بفيروس كورونا المستجد. وفي هذا المستشفى توفي رحمه الله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
الموت بيد الله، ولكن حينما تموت شخصية مثل الأستاذ ولي أختر الذي قام بالتدريس في جامعة دلهي لحوالي ثلاث وعشرين سنة، وترأس قسم اللغة العربية فيها مرتين، وفاز بجائزة "مهارشي بادريان وياس سمان” التي تسمى "جائزة رئيس الهند” أيضا في مجال خدمة اللغة العربية، وعمل كعضو للجنة البحث بجامعة دلهي، وألف العديد من الكتب والبحوث والدراسات، وقام بخدمات عالية متنوعة في التدريس والتأليف والبحث وإعداد المنهج وبث الوعي وخدمة الإنسان، حينما تموت شخصية مثله وبسبب عدم العلاج المناسب بين الادعاءات الفخمة حول الإجراءات التي لا مثيل لها في علاج المصابين بمرض فيروس كورونا المستجد من قبل الحكومتين: حكومة ولاية دلهي والحكومة المركزية، فالأسف لا يماثل أسفا والألم لا يقارب ألما. يا أسفي عليكم أيها الحكام، أذاقكم الله جزاء ما كسبتم.
بفقدان الدكتور البروفيسور ولي أختر الندوي، فقدت أسرة اللغة العربية فردا فذا مخلصا من أفرادها وقد ترك هذا فراغا يعز أن يملأ. لا شك بأننا بفراقه لمحزونون، وبرحيله لمتألمون، ولكنه ما لنا إلا أن نتقبل المشيئة الإلهية، وندعو الله تبارك وتعالى للفقيد بأن يغفر له ويرحمه ويسكنه فسيح جناته ويلهم أهله وذويه الصبر والسلوان.
رحمك الله أيها الأستاذ! عشت كريما ومت كريما!
بيض الله وجهك