فضيلة الشيخ مختار أحمد الندوي السلفي: حياته ومآثره

صلاح الدين مقبول احمد السير و التراجم

أنجبت مدينة ” مئونات بهنجن ” – و هي مدينة علمية و صناعية معروفة في الولاية الشمالية في الهند – علماء بارزين في مجالات مختلفة من العلم والمعرفة، والتصنيف والتأليف، والبحث والتحقيق، والدعوة والإرشاد.
و من هؤلاء الأعلام الذين يخلد ذكرهم في التاريخ الديني المعاصر للمسلمين في الهند، فضيلة الشيخ مختار أحمد الندوي السلفي، -رحمه الله تعالى-.
ولد الشيخ في أحد شهور سنة ( 1349هـ = 1930م )، في أسرة سلفية محافظة، ونشأ فيها وترعرع على حب العلم والدين، والتمسُّك بالشرع المتين، وقد شكر الله عزَّ وجل جهد والده، حيث كان يذهب به إلى المؤتمرات الدعوية والاجتماعات الدينية منذ صغره، ويطلب من العلماء الدعاء له أن يكون من زمرتهم، فاستجاب الله دعاءهم له، فصار من العلماء الدعاة -رحمهم الله تعالى -.
طلبه للعلم:
تلقى الشيخ تعليمه في أشهر المدارس الإسلامية آنذاك (مثل "الجامعة العالية العربية” بمئو، والجامعة الإسلامية ” فيض عام ” بمئو، والجامعة الرحمانية "دار الحديث” بدلهي، و” دار العلوم لندوة العلماء” بلكناو ) ، وعلى أيدي أشهر الأساتذة والشيوخ، أمثال الشيخ محمد أحمد، (الأمين العام لجامعة فيض عام، و الإداري المحنك المعروف)، والشيخ عبد الله شائق (مؤسس دار الحديث الأثرية، والأديب المشهور) ، والشيخ أبي القاسم البنارسي (صاحب القلم السيّال، واللسان البليغ في الدفاع عن السنة، من تلاميذ المحدث السيد نذير حسين الدهلوي) وغيرهم -رحمهم الله تعالى -.
وحصل على شهادة العالمية من ندوة العلماء، والفضيلة من جامعة فيض عام، وكذلك من الهيئة التعليمية في حكومة (يو. بي.) أيضاً، ودبلوم في علوم المكتبة، والليسانس في الإنجليزية من جامعة علي كره الإسلامية بالهند.
حياته الدعوية:
بدأ حياته الدعوية بالإمامة والخطابة في المسجد (وهي كانت وظيفة خلفاء المسلمين وأمرائهم أيام ازدهار دول الإسلام) وانتهى بها، ولم يفرط في هذه الوظيفة رغم مسئولياته الكثيرة المتنوعة مع تقدمه في السن ، وقضى من عمره ما يقارب خمساً وخمسين سنة بين جوامع أهل الحديث في مدينة "كلكته ” و” ممباي ” وعرف ببلاغة أسلوبه، وقوّة بيانه، ونداوة صوته على مستوى الهند، فكانت الاجتماعات الدينية والمؤتمرات الإسلامية تتجمّل بدروسه ومحاضراته من أقصى الهند إلى أدناها.
مناصبه:
كان الشيخ –رحمه الله تعالى – عضواً في العديد من الهيئات التعليمية، والمنظمات الإسلامية، والمؤسسات الخيرية في داخل الهند وخارجها، وقد تقلد مناصب عديدة في الهند، من أهمها:
* اختير نائباً لرئيس الجامعة السلفية ( بنارس – الهند )، وكان له دور رئيسي رائد في التعريف بهذه الجامعة المباركة في العالم العربي، وتمويل مشاريعها التعليمية والبنائية إلى ما يقارب عقدين من الزمن من إنشائها، فجزاه الله خيراً.
* انتخب رئيساً لجمعية أهل الحديث لعموم الهند في الفترة ما بين ( 1990- 1997 )، ومن أهم إنجازاته قبل توليه الرئاسة أنه اشترى بناية في قلب "دلهي” ( عاصمة الهند )، بالتعاون مع الجامعة السلفية "بنارس "، وجعلها مقراً للجمعية المذكورة، وهي معروفة الآن بـ ” أهل الحديث منزل ".
و هذه منة عظيمة على أهل الحديث السلفيين في الهند، الذين لم يكن لجمعيتهم المركزية مقرّ خاص بها منذ تشكيلها سنة 1906م.
* كان نائب رئيس ” هيئة الأحوال الشخصية للمسلمين في الهند ” إلى آخر حياته، و هي منظمة شرعية تدافع عن حقوق المسلمين على مستوى الحكومة.
مآثره:
كان الشيخ – رحمه الله تعالى – ذا همّة عالية، وعزيمة قويّة، وطبيعة أخّاذة، مثل النحل يجلس على كل زهرة، ينشف رحيقها ليستفيد منه الناس فيما بعد.
فاستفاد الشيخ من اقتراحات المؤتمرات الإسلامية والمؤسسات الدينية ما يجعل المسلمين على مستوى الأحداث في مجال التعليم و التربية، والصحة والنظافة، والبناء والتعمير، والنشر والتأليف.
وتتلخص مآثر الشيخ في ثلاثة جوانب مهمّة: جانب التعليم والتربية، وجانب البناء والتعمير، وجانب نشر الثقافة الدينية.
ولترجمة هذه الجوانب وتحقيقها إلى أمر الواقع أنشأ ثلاث مؤسسات:

1- الجمعية المحمدية التعليمية والخيرية:
أقيمت هذه الجمعية سنة 1978م تنفيذاً لقرار مؤتمر "مناهج التعليم و صبغها بالصبغة الإسلامية” الذي عقدته جامعة الملك عبد العزيز بجدّة؛ فأنشأت عدّة كليات ومعاهد ومدارس بمنهج دراسي خاص يجمع بين العلوم الدينية والعلوم العصرية، ويؤهل الطلبة لمواجهة تحديات العصر ضد الإسلام والمسلمين، ومن إنجازاتها:
* الجامعة المحمدية (منصورة – ماليغاؤن)، وهي من أشهر الجامعات الدينية في الهند، والجامعة المحمدية ( بنغلور )
* كلية عائشة الصديقة رضي الله عنها ( منصورة ) وكلية عائشة ( بنغلور )، وكلية فاطمة الزهراء ( مئو )، ولم يكن للمسلين في الهند كبير اهتمام بتعليم البنات، فبادر الشيخ بكسر هذا الحاجز، وأنشأ هذه الكلية، وواجه معارضة شديدة، ولكن تحملها، والآن تأسى به كثير من الناس بإقامة مدارس خاصة للبنات.
* كلية الطب المحمدية ( منصورة ) شهادتها معترف بها لدى الحكومة.
* مستشفى الساير بكامل تجهيزاته ( منصورة )، والمستشفى المحمدي العام ( عاليه جنرل هاسبتل ) ( مئو ).
هذه الجامعات الدينية والكليات العصرية ، والمستشفيات المجهزة لعبت دوراً هاماً في تزويد الطلبة بالثقافة الإسلامية والعصرية، وتقديم المساعدات الطبية للمواطنين.

2- إدارة إصلاح المساجد:
شعر الشيخ – رحمه الله تعالى – بمسيس حاجة الملايين المملينة من المسلمين إلى مساجد مشيدة نظيفة، فأنشأ "إدارة إصلاح المساجد” وقد أدت هذه الإدارة دوراً عجيباً لا ينسى في هذا الباب.
قامت بتشييد المساجد وترميمها على نطاق واسع، حتى بلغ عددها أكثر من أربعمائة مسجد في شتى ولايات الهند، وهي تتميز برصانة البناء وجمال الترتيب، وحسن النظام، وتقوم بأداء رسالتها في الدعوة إلى الله تعالى.
هكذا عادت هيبة المساجد في القلوب سعة ونظافة، ورصانة ومتانة، ونظاماً وجمالاً، بفضل الله عز وجل، ثم بجهود الشيخ المتمثّلة في الإدارة المباركة.

3- الدار السلفية:
أحسّ الشيخ – رحمه الله تعالى – بأهمية وجود دار لنشر كتب دينية ودعوية ومنهجية وثقافية، لما لها من أهمية في بناء شخصية المسلم، فأنشأ "الدار السلفية ” ( ممباي ) التي طبعت كتباً نافعة ورسائل ماتعة كثيرة، حتى بلغت إصداراتها ما يقارب ( 250 ) كتاباً، بالعربية والأردية والهندية والإنجليزية.
وهذه الدار تعرف بتميزها بطباعتها الفاخرة بين دور النشر الإسلامية في الهند.
وقد نشرت هذه الدار كتب الشيخ ورسائله المفيدة في فهم العقيدة الصحيحة، والتحذير من البدع والخرافات.
وبهذه المناسبة أذكر أن الشيخ كانت له خبرة طويلة في كتابة المقالات في الجرائد والمجلات، لو جًمعت تبلغ مجلدات، وما ذلك على الله عسير.
وقد كان الشيخ مشرفاً عامّاً على مجلة "صوت الحق” ( منصورة )، ومجلة ” البلاغ ” ( ممباي )، التي كان يتحفها شهرياً بأربع مقالات في مواضيع شتى، واستمر على ذلك إلى آخر حياته – رحمه الله تعالى -.
صفاته وأخلاقه:
كان الشيخ – رحمه الله تعالى – وجيهاً ذا وقار، متحدثاً لبقاً، جادّاً مجداً في أداء الواجبات والمسئوليات التي كانت عليه، متواضعاً، ناصحاً، ذا دعابة معهودة.
أرى من تواضعه – رحمه الله تعالى – أنه زارني منفرداً في مقري بالكويت، وكذلك في ( نيودلهي ) زيارة خاصّة، واستفدت من زيارته نصائح غالية أتذكرها حتى الآن.
وبالمناسبة أقول: إنه – رحمه الله تعالى – أرادني أن أكون في "الجامعة المحمدية” ( منصورة )، وحاول لذلك مرتين، ولم يتم لي ذلك.
مرة عند تخرّجي في الجامعة السلفية ( بنارس )، ولكني حظيت بالبقاء فيها خادماً لمكتبتها العامّة، منتظراً التحاقي بالجامعة الإسلامية بالمدينة الطيبة.
و أخرى عند تخرجي في الجامعة الإسلامية.
ومن الطريف أنه تمّ تعاقدي مع دار الإفتاء في مكتبها في "باريس ” ( فرنسا ) بتوصية من سماحة العلامة الشيخ / عبد العزيز بن عبد الله بن باز – ( المفتي العام السابق للملكة العربية السعودية ) – رحمه الله تعالى -، و ذلك بوساطة إخواننا الأفاضل الكبار في مكة المكرّمة، ثمّ حوّلت من قبل مدير إدارة الدعوة في الخارج إلى ” الجامعة المحمدية ” ( منصورة )، وأنا لا أعلم، ولا أرغب في الذهاب إلى فرنسا، فتوكلت على الله واستلمت بطاقة التعاقد، وسافرت إلى الكويت في طريقي على الهند، على طلب من الإخوة هناك، فأعجبني المقام بهذه الدولة الحبيبة المحروسة، لما رأيت في إخوتي من أهلها الكرام، من رغبة صادقة في بقائي معهم، مع كرم الضيافة، وحسن المعاملة، فبقيت فيها إلى الآن، وقد مضى على ذلك أكثر من ربع قرن من الزمان، وكان أمر الله قدراً مقدورا.

إلى مثواه الأخير:
كانت حياة الشيخ – رحمه الله تعالى – متعددة الجوانب، مترامية الأطراف، حافلة بالمآثر والأعمال الرائدة، خاصة في مجال التعليم والتربية، والبناء والتعمير، وبث الثقافة الإسلامية بواسطة الكتب والرسائل.
وقد تمتع بعلاقات واسعة مع أهل الخير جماعات وأفراداً، ونال ثقة الجميع فترجمها في المشاريع الإسلامية من تشييد المدارس والمساجد، والمستشفيات والملاجئ للمنكوبين.
وكان يتميز بالحكمة، والحنكة، والموعظة الحسنة، والدعابة المعهودة.
وعرف خطيباً مصقعاً، وداعية قديراً، وكاتباً ظريفاً، وإدارياً محنكاً.
هكذا قضى حياته – رحمه الله تعالى – متقلباً من منصب إلى منصب، ومن عمل إلى آخر من غير ملل ولا كلل، حتى جاء أجله المحتوم في ” ممباي "، وانتقل إلى جوار ربّه، وذلك مساء يوم الأحد الخامس والعشرين من شعبان سنة 1428هـ، الموافق التاسع من سبتمبر سنة 2007م، عن عمر يقارب تسعاً وسبعين سنة هجرية، ودفن فيها يوم الاثنين، في جنازة مشهودة حضرها جمٌ غفير من عامة المسلمين وخاصتهم، فإنا لله و إنا إليه راجعون.
اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه!!

Leave a Reply

avatar
3000
  Subscribe  
Notify of