علماء السنة لأهل الأرض بمثابة الشمس التي تكشف الظلمات وبمثابة النجوم التي يهتدى بها في المتاهات لأنهم يميزون لهم الحق من الباطل، والهدى من الضلال، والعلم من الجهل، فما أعظم نفعهم، وما أكثر بركتهم، وما أكبر النعمة بوجودهم وحياتهم. وإذا كانوا بتلك المنزلة العالية في الكتاب والسنة وفي قلوب أهل الإيمان من الأمة فإن ذهابهم مصاب عظيم لأن العالم يموت فيدع من بعده فراغا لا يسد.
يقول عمر رضي الله عنه: "موت ألف عابد أهون من موت عالم بصير بحلال الله وحرامه”. قال ابن القيم رحمه الله: "ووجه قول عمر رضي الله عنه أن هذا العالم يهدم على إبليس كل ما يبنيه بعلمه وإرشاده، وأما العابد، فنفعه مقصور على نفسه (مفتاح دار السعادة: ١/١٢٧)
وقال الحسن البصري رحمه الله: "موت العالم ثلمة لا يسده شىء ما اختلف الليل والنهار”.
[الثلمة: هى الكسر الذي يكون في الإناء فيمنع الاستفادة منه- النهاية في غريب الحديث]
يقول ابن القيم رحمه الله: "لما كان صلاح الوجود بالعلماء، ولولاهم كان الناس كالبهائم، بل أسوأ حالا كان موت العالم مصيبة لا يجبرها إلا خلف غيره له. (مفتاح دار السعادة١/٦٨)
وفسر ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى: (أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) بموت العلماء لما في موتهم من النقص الكبير الذي يطرأ على أهل الأرض.
ولا شك أن لكل عصر من عصور الإسلام علماؤه الذين يسرهم الله تبارك وتعالى لحفظ دينه؛ فهم الأمناء على هذا الدين؛ وهم ورثة الأنبياء الذين يقومون بتبليغ دينه، وبيان أحكام شرعه، وإرشاد الأمة إليه، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، ورثوا العلم؛ فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، رواه أبو داود والترمذي.
فموت العالم له الأثر العظيم في أهل أثره؛ لما يتركه من فراغ كبير بينهم، ونحن هنا نتكلم عن العالم الرباني الذي لا يفارق قوله عمله، ولا يختلف نطق لسانه عن عمل جوارحه.
ولا شك أن مصابنا بفقد عالمنا وشيخنا العلامة الفقيه الشيخ الأستاذ الدكتور فضل الرحمن بن دين محمد المدني جلل، ذلك أننا لم نفقد رجلا عاديا، بل فقدنا عالما ومربيا، فإني لا أخال أحدا عرف الشيخ، أو عمل معه عن قرب إلا واستفاد منه فائدة عظيمة كان لها الأثر الكبير على شخصيته وسلوكه، فالشيخ رحمه الله يعلمك إذا تكلم، ويعلمك إذا سكت، ويعلمك إذا جلس، ويعلمك إذا مشى، كما أن البعيد عنه قد أصابه من هذا النفع الشىء الكثير، وذلك من خلال قراءة كتب الشيخ ومقالاته، وسماع خطبه ودروسه.
كيف لا وحياة الشيخ رحمه الله تعالى حافلة بحب العلم والحرص على طلبه، فقد سعى رحمه الله منذ سنوات حياته الأولى إلى طلب العلم والسفر إلى المدارس السلفية والمعاهد الإسلامية سواء في المدن أو القرى، حيث أخذ العلم عن أكابر العلماء في مدرسة محمدية نصرة الإسلام بشنكر نغر ثم واصل الشيخ طلبه للعلم في جامعة سراج العلوم بنيبال ثم في جامعة سراج العلوم ببونديهار، يوبي التي كان رئيسها الشيخ يحيى، ثم في الجامعة السلفية ببنارس، يوبي وحصل هناك على شهادتي العالمية والفضيلة، ثم التحق الشيخ رحمه الله بكلية الشريعة في الجامعة الإسلامية بطيبة الطيبة وذلك للحصول على درجة البكالوريوس ثم حصل درجتي الماجستير والدكتوراه من قسم الفقه الإسلامي من هناك.
لقد كان الشيخ فضل الرحمن المدني رحمه الله علما من أعلام الهند في علوم الشريعة فقد قام بتدريس العلوم الشرعية ولاسيما أمهات الكتب في الفنون الجليلة مثل التفسير والحديث والفقه وأصول الفقه وغيرها من العلوم أكثر من ٤٠ سنة ولا يخلو درس من دروسه من دقائق الفن، ولطائف الحكم، ونكت بليغة، واستفاد منه خلق كثير.
وتولى الشيخ عدة مناصب علمية فقد كان عضوا لرابطة العالم الإسلامي، وعضوا لمجلس قانون الأحوال الشخصية الإسلامي الهندي، ورئيسا لجمعية خريجي الجامعات السعودية بالهند والنيبال، وكان أستاذا ومفتيا في الجامعة المحمدية ورئيسا فيها للمجلس العلمي فكان يؤدي مهامه في التدريس والإشراف والفتيا إلى أن وافاه الأجل المحتوم ليلة الجمعة، ١٢ شعبان، ١٤٤٢ھ، فوفاته خسارة فادحة للجامعة.
وللشيخ رحمه الله مؤلفات كثيرة ورسائل جمة ما يقارب ٤٠ عنوانا وبحثا في مختلف العلوم والفنون، ومن أبرزها: مسائل الإمام احمد بن حنبل برواية ابنه صالح: تحقيق ودراسة وتعليق، وأحكام التذكية في الشريعة الإسلامية، وكتاب العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد برواية المروزي وصالح والميموني: تحقيق ودراسة، ومختصر تاريخ التشريع الاسلامي، ونعمة المنان مجموع فتاوى فضيلة الدكتور فضل الرحمن.
وقد ترك لنا الشيخ رحمه الله تعالى حملا ثقيلا بوفاته، حملنا أمانة في عنق كل من تلمذ على يديه أو أخذ العلم منه بأن يسير على خطاه، ويكمل ما بدأه الشيخ وأرساه، حتى تصبح هذه البذرة الطيبة الصالحة شجرة عظيمة يتفيؤ ظلالها ويأكل من ثمرها كل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها.
فيا شيخنا، رحمك الله! وعزاؤنا فيك أن أجرك وثوابك موصول بإذن الله تعالى إلى يوم القيامة؛ وذلك أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: من صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له) {سنن النسائي} وأنت إن شاء الله حزت هذه الثلاثة: العلم النافع، والصدقة الجارية، والولد الصالح الذي يدعو لك. وما تلاميذك إلا صدقة جارية لك بإذن الله تعالى.
رحمك الله تعالى يا شيخنا، وجمعنا بك والصالحين من هذه الأمة مع النبيين والشهداء في الفردوس الأعلى من الجنة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.