العلامة حميد الدين الفراهي : حياته و أفكاره

محمد خضر شميم السير و التراجم

كان العلامة حميد الدين الفراهي (1930 – 1863 ) عالما إسلاميا نابغا في جنوب آسيا و اشتهر لعمله الرائد لنظرية نظام القرآن. لقد أدى دورا فعالا في إنتاج الأعمال العلمية حول نظرية أن الآيات القرآنية مترابطة متناسقة بعضها ببعض بحيث أن كل سورة للقرآن تشكل بنية متماسكة مترابطة و تمتلك موضوعها المركزي الذي سماه "العمود” و أخذ أيضا في كتابة التفسير الذي لم يحظ بالتكميل بسبب موته في عام 1930 م. و لكن مقدمة هذا التفسير تعد عملا مهما لنظرية نظام القرآن.

ميلاده و طفولته:

ولد العلامة حميد الدين الفراهي في الثامن عشر من نوفمبر عام 1863م بقرية فريها (و منها أصبح الفراهي ) في مديرية أعظم جره ، بإقليم اترابراديش ، الهند . و كان ابن عبد الكريم شيخ و كانت أمه مقيمة بي بي . و كان أيضا ابن خال العالم و المؤرخ الشهير العلامة شبلي النعماني (1914 – 1857م ) و تعلم منه اللغة العربية. حفظ القرآن عن ظهر قلبه صغيرا كما كان عادة عصره . ثم تلقى دروس اللغة الفارسية على يد المولوي مهدي حسين من قرية "چيتارا” و برع فيها حتى نظم فيها الشعر و هو ابن ستة عشر عاما . ثم سافر إلى لاهور ليدرس الأدب العربي على يد المولانا فيض الحسن السهارنبوري الذي كان يعد من العباقرة في هذا المجال عصرئذ، ولما صار ابن الواحد و العشرين تم قبوله في جامعة علي جره ليدرس الفروع الجديدة للعلم وتم تقديره من قبل السير سيد أحمد خان ، مؤسس جامعة علي جره. و كتب فيه السير سيد أنه يرسل من هو أحسن من أساتذة الجامعة في علم اللغة العربية و الفارسية و يعني هذا أنه قد كان أصبح شهيرا عندما ذهب إلى جامعة علي جره للدراسة. ترجم أجزاء الطبقات الكبرى لابن شهاب الزهري (845 – 784م ) إلى الفارسية حينما كان يدرس في الجامعة، و أدخلت هذه الترجمة في المنهج الدراسي للكلية لاحقا. و كذلك ترجم كتابا إنجليزيا باسم ( Aesop’s fables ) إلى اللغة العربية و سماه كتاب "أمثال آصف الحكيم” وهذا الكتاب يدرس في مدرسة الإصلاح بسرائ مير أعظم جره في الصف الثاني من العربي، و بما أنني من متخرجي تلك المدرسة قرأت هذا الكتاب الشيق الصعب فهمه ذلك الوقت السهل إدراكه لاحقا.

العلامة الفراهي كمعلم:

و بعد أن أكمل دراساته قام العلامة حميد الدين الفراهي بتدريس اللغة العربية في المؤسسات العديدة، بما فيها جامعة علي جره و دار العلوم بحيدر آباد، تعلم أيضا اللغة العبرية على يد المستشرق الألماني و أستاذ اللغة العربية في جامعة علي جره حينئذ يوسف هارويتز، و أثناء إقامته في حيدرآباد تصور الفراهي فكرة تأسيس جامعة حيث سيتم فيها تدريس كافة العلوم الدينية و العلوم الحديثة العصرية باللغة الأردية، و تمثلت خطته التي أعدها لهذا الهدف في حيز الوجود في شكل جامعة عثمانية بحيدر آباد. ثم ذهب إلى سراي مير – بلدة في أعظم جره – ليتولى مسؤولية مدرسة الإصلاح، المؤسسة المبنية على الأفكار التدريسية لشبلي النعماني و الفراهي. و كان العلامة الفراهي قد خدمها كمدير رئيسي لها منذ بداية تأسيسها ، و لكن الأشغال الأخرى منعته من أن يشارك في أمورها و شؤؤنها بكامل نشاط و جدية، و لكنه كرس حياته ، منذ 1925 م السنة التي جاء فيها في سراي مير إلى 1930 م السنة التي فيها انتقل إلى جوار رحمة الله ، و خصص معظم أوقاته و قواه لإدارة شؤون المدرسة و التدريس فيها . و تلقى بعض من الطلبة – و كان من أبرزهم الشيخ أمين أحسن الإصلاحي الذي كتب تفسيره الشهير "تدبر القرآن” في تسعة أجزاء وفقا لأصول و نظرية أستاذه الفراهي – تربية خاصة على يديه و أصبحوا حاملي رايته فيما بعد .

نظرية نظام القرآن:

قام العلامة الفراهي بالتفكر و التدبر في القرآن الكريم لمدة خمسين سنة تقريبا و ظل القرآن مركزه الرئيسي لكل كتاباته، و أعظم مساهماته في دراسته هو اكتشاف النظام في القرآن الكريم، و قال العلامة شبلي النعماني مثنيا على إنجاز طالبه إنه حقق الشيئ المستحيل، و أثبت الفراهي لجميع النقاد الغربيين أن كل الذي لديه معرفة كافية باللغة العربية يستطيع أن يدرك النظام في القرآن الذي ليس بمجموعة عشوائية من الأحكام و الأوامر.
و قد أداه تدبره هذا في كتاب الله تعالى و حسن قراءته إياه إلى استنباط ما سماه "علم النظام” و تحديد أصوله ، و ذلك بعد أن نظر فيما قاله علماء القرآن في التناسب و الترابط المحفوف بهما كلام الله تعالى (آيات و سور ) ، فوجده غير كاف و لا شاف – كما يقول – على ما فيه من أهمية "الكشوف الأولى” إذ صح التعبير ، ولذلك عمل على تطويره و تعميقه حتى يجعل منه فنا مستقلا قائما على أصول راسخة و قواعد واضحة مستنبطة من أساليب القرآن و قواعد اللسان ، و جاء في تقريره بما لم يهتد إليه أحد ممن سبقه ؛ مما يفتح للمتدبرين في كتاب الله تعالى بابا عظيما لفهم أسراراه و بلاغته و يسهل عليهم الانتفاع به علما و عملا .
و يوضح : "إن المراد بالنظام أن تكون السورة كلا واحدا . ثم تكون ذات مناسبة بالسورة السابقة و اللاحقة ، أو باللتي قبلها أو بعدها على بعد منها ، فكما أن الآيات ربما تكون معترضة ، فكذلك ربما تكون السورة معترضة ، و على هذا الأصل نرى القرآن كلاما واحدا ، ذا مناسبة و ترتيب في أجزائه ، من الأول إلى الآخر ؛ فتتبين مما تقدم أن النظام شيئ زائد على المناسبة و ترتيب الأجزاء .” (1)

و يؤكد العلامة الفراهي : "إن نظام القرآن ليس مقصودا لذاته ، و إنما هو المنهاج الصحيح لتدبر القرآن ، و هو المرجح عند تضارب الأقوال ، و هو المعين عند تعدد الاحتمالات و هو الإقليد الذي تفتح به كنوز القرآن .” (2)

مصنفات العلامة الفراهي:

يبلغ عدد مصنفات العلامة الفراهي خمسين تقريبا منها المطبوعة و منها الغير مطبوعة . و معظم مصنفاته باللغة العربية و لكنه قد كتب أيضا باللغة الأردية و الفارسية ، و أسماء مؤلفاته المطبوعة بغير العربية هي :

1- أسباق النحو – جزئان باللغة الأردية – و هو من أنفع الكتب لتعليم النحو و الصرف بطريقة سهلة جديدة لغير الناطقين بالعربية كما ثبت ذلك بالتجربة و كاتب هذه المقالة مر بدوره بهذه التجربة لأنني كما ذكرت من خريجي مدرسة الإصلاح و هذا الكتاب داخل المنهج الدراسي لهذه المدرسة .

2 – ديوانه الفارسي

3 – خردنامه ، كتاب نظم فيه حكمة سيدنا سليمان عليه السلام بالفارسية القحة لا تشوبها كلمة عربية. فمن هذه الناحية كان العلامة الفراهي أيضا من نوابغ علماء الفارسية إذ أنه صعب جدا أن تكتب كتابا كاملا باللغة الفارسية بغير أن تستعمل المفردات ذات الأصول العربية بما فيها من كثرة الألفاظ ذات الأصول العربية و لكنه يبدو أنه ترك مجال الفارسية في حياته اللاحقة و كرس حياته كاملا للتدبر و الإمعان في القرآن الكريم.

4 – مقالة في الشفاعة و الكفارة باللغة الإنجليزية ، رد بها على بعض علماء النصارى.

مؤلفاته المطبوعة باللغة العربية :

1 – الرأي الصحيح فيمن هو الذبيح . و قد طبع هذا الكتاب بدار القلم بدمشق 1420 ه‍ و هو من أنفس ما كتب في قصة ذبح إسماعيل عليه السلام و مكانه و أورد فيه دلائل محكمة مسكتة من التوراة و القرآن و السنة ما فيه الكفاية ليسكت اليهود و النصارى في هذا الأمر .

2 – تفسير سور من القرآن ، و هو جزء من أجزاء تفسيره نظام القرآن . و قد نشر منه الأجزاء التالية :
• فاتحة نظام القرآن و هي مقدمة تفسيره
• تفسير سورة الذاريات ، و التحريم ، و القيامة ، و المرسلات ، و عبس ، و الشمس ، و التين ، و العصر ، و الفيل ، و الكوثر ، و الكافرون ، و اللهب ، و الإخلاص

3 – إمعان في أقسام القرآن

4 – أساليب القرآن

5 – التكميل في أصول التأويل

6 – مفردات القرآن . و هذا الكتاب من أنفس كتبه ، و قد طبع طبعتين ، أولاهما عام 1358 ه‍ ، و الثانية عام 1422 ه‍ بتحقيق محمد أجمل أيوب الإصلاحي . و له في هذا الكتاب نظرات جديدة قل من تنبه لها من العلماء السابقين الذين كتبوا في مفردات القرآن الكريم .

آراء العلماء في العلامة الفراهي :

قد كان العلامة الفراهي نموذجا مشرقا للعالم الإسلامي ، الجامع بين التبحر في العلوم العربية و الدينية ، و الاطلاع الواسع على العلوم العصرية و الطبيعية ، و يظهر أثر هذه الثقافة الموسوعية العميقة فيما كتب من مصنفات قاربت الخمسين عددا ، أهمها و أعظمها ما كتبه حول القرآن الكريم و تأويله و نظامه ، و كذلك ما كتبه حول الحديث الشريف و الأدب العربي و الفلسفة الأخلاقية و المنطق ، بالإضافة إلى الكثير من الشعر الراقي في كل من اللسانين العربي و الفارسي ، و في ذلك يقول السيد أبو الحسن الندوي (1999 – 1914 م) : "… و لا يتأتى ذلك إلا لمن جمع بين التدبر في القرآن و الاشتغال به ، و التذوق الصحيح لفن البلاغة و المعاني و البيان في اللغة العربية ، و بين التشبع من دراسة بعض اللغات الأجنبية و الصحف السماوية القديمة ، و سلامة الفكر و رجاحة العقل و التعمق … و ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .” (3)

و يقول فيه الأستاذ المودودي : ” قد أصبح من المسلم في العصر الحاضر أن القلة القليلة من العلماء وصلوا ما أنعم الله على العلامة الفراهي به فيما يتعلق بتدبر القرآن، لقد قضى معظم حياته متدبرا في معاني هذا الكتاب ، و كتب تفسيرا بارعا للقرآن يصعب أن نجد له مثيلا حتى في القرون الأولى …” (4)

وقال العلامة عبد الماجد الدريابادي :
” العلامة حميد الدين الفراهي هو أبرز شخصية في هذا العصر فيما يتعلق بالدراسات القرآنية . و إنه لا يحتل مكانا مرموقا بين علماء هذا العصر فحسب بل اكتشف ، في الواقع ، بعض القواعد الجديدة لتفسير القرآن الكريم ، و أولها فلسفة نظام القرآن .” (5)

هذا كان خلاصة حياة و أفكار العالم الجليل النابغ العبقري حميد الدين الفراهي . و على الله التوفيق .

المراجع و المصادر

(1) دلائل النظام العلامة الفراهي ، ص : 74/75
(2) أيضا ، ص : 17
(3) من تقديمه لطبعة دار القلم بدمشق 1994 ، من كتاب "إمعان في أقسام القرآن”.
(4) ترجمان القرآن ، المجلد :6 ، العدد :6
(5) هندوستان میں مسلمانوں کا نظام تعلیم و تربیت ، المجلد : 2 ، ص : 280 – 279.

1
Leave a Reply

avatar
3000
1 Comment threads
0 Thread replies
0 Followers
 
Most reacted comment
Hottest comment thread
1 Comment authors
عبيد سيد Recent comment authors
  Subscribe  
newest oldest most voted
Notify of
عبيد سيد
Guest
عبيد سيد

هذا هو الرجل الذي أسس البنيان لمنكرين بالحديث النبوي في الهند، كأمين أحسن إصلاحي وجاويد أحمد غامدي… نعوذ بالله من أئمة المضلين…