الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه أجمعين, أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, أما بعد.
فهذه كلمات في حكم إطلاق اسم الصحيح على سُنَن الإمام النسائي وبقيَّة كُتُب السُّنَن, فقد وقع الخلاف فيه بين العلماء, فبعضهم يرون صحة هذا الإطلاق عليها, وآخرون لا يرون ذلك.
والخلاف في سنن النسائي أكثر من غيره لما عُرِفَ من تَشَدُّده في الحكم على الأحاديث والرجال, ونُقِل عنه أنه أطلق عليه اسم الصحيح كذلك.
قال العلامة السيوطي رحمه الله في «مقدمة شرحه على سنن الإمام النسائي» (1/6): "وذكر بعضهم أن النسائي لما صَنَّف السنن الكبرى أهداه إلى أمير الرملة, فقال له الأمير: أ كلُّ ما في هذا صحيح؟ قال: لا, قال: فجَرِّد الصحيح منه, فَصَنَّف المُجْتَبَى”.
فظاهر هذه القصة أن كل ما في «المجتبى, أي: السنن الصغرى» صحيح عنده, ولو لم يَكُنْ صحيحًا عند غيره؛ لكنَّ في ثبوتها نظر, فإن أقدم من وقفتُ عليه ذكَر هذه القصةَ هو ابنُ خير الإشبيلي في «فهرسته» (ص155) عن أبي علي الغَسَّاني رحمه الله, وهو لم يُدرِك القصة, بينه وبين النسائي مفاوز تنقطع فيها أعناق الإبل, وقد ذكرها الحافظ الذهبي في «السير» (14/131) وقال: "هذا لم يصح”.
وقال الدكتور سعد بن عبد الله الحميد: "هذه الحكاية بإسنادها منطقع؛ فهي إذن لا تثبت من حيث الإسناد”. [«مناهج المحدثين» (ص195)]
وهناك حكاية أخرى عن الإمام النسائي رحمه الله تُؤَيِّد ما في هذه القصة, قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وقال محمد بن معاوية الأحمر الراوي عن النسائي ما معناه, قال النسائي: "كتاب السنن كله صحيح وبعضه معلول”؛ إلا أنه لم يبين علته, والمنتخب منه المسمى بالمجتبى صحيح كُلُّه”. [«النكت على كتاب ابن الصلاح» (1/484)].
فأطلق محمدُ بنُ معاوية الأحمر الراويُّ عن الإمام النسائي كتابَه «السنن» اسمَ الصحيح عليه, وتَبِعَه جماعة من العلماء, منهم: الحاكم, والخطيب البغدادي, وأبو أحمد ابن عدي, وأبو الحسن الدارقطني, وأبو طاهر السلفي, وأبو علي النيسابوري, وابن منده, وعبد الغني بن سعيد, وأبو يعلى الخليلي, وغيرهم. [«النكت على كتاب ابن الصلاح» (1/481)]
وسَمَّى النَّوَّاب صديق حسن خان القنوجي كتابَه في دراسة وتعريف الكتب الستة: «الحطة في ذكر الصحاح الستة».
لكن يُشكِل عليه وجود الأحاديث الكثيرة التي لا تبلغ هذه الرُّتبة الشريفة, بعضها حِسَان, وبعضها ضِعَاف أعلَّها الإمام النسائيُّ نفسُه.
وقد أَنكَر بعض العلماء هذا الإطلاق على سنن النسائي وغيره من كتب السنن, وعَدَّه من التَّساهُل, قال الحافظ العراقي في «ألفيته» (ص: 100):
وَمَنْ عَليها أطْلَقَ الصَّحِيْحَا
فَقَدْ أَتَى تَسَاهُلاً صَرِيْحَا
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "وقول الحافظ أبي علي بن السكن، وكذا الخطيب البغدادي في كتاب السنن للنسائي: إنه صحيح، فيه نظر, وإن له شرطًا في كتاب السنن للنسائي: إنه صحيح، فيه نظر, وإن شرطًا في الرجال أشد من شرط مسلم غير مسلَّم, فإن فيه رجالًا مجهولين: إما عينًا أو حالًا، وفيهم المجروح، وفيه أحاديث ضعيفة ومعللة ومنكرة”. [«الباعث الحثيث إلى اختصار علوم الحديث» (ص31)]
فإن هذا الإطلاق مَبنِيٌّ على التساهل أو المُبالَغة, أو يُحمَل على الغالب, لأن فيها الصحيح والحسن والضعيف, بل في بعضها موضوع كذلك كسنن الإمام ابن ماجه رحمه الله.
وحَمْلُه على الغالب هو الراجح, والله أعلم.
قال النَّوَوي: "مُرادُه بهذا أن مُعظَم الكتب الثلاثة يُحتَجُّ به, أي: صالح”. [انظر: «النكت» لابن حجر (1/489)]
وقال الزركشي في «نُكَته على ابن الصلاح» (1/379): "تسمية هذه الكتب صِحَاحًا إما هو باعتبار الأغلب؛ لأن غالبها الصِّحاح والحِسان, وهي مُلحَقَة بالصحاح, والضعيف منها رُبَّمَا الْتَحَقَ بالحسن بإطلاق الصحة عليها في باب التغليب”.
وعُلِم بهذا حكم إطلاق «الصِّحَاح السِّتَّة» على صحيحَيْ البخاري ومسلم, وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه؛ بأنه محمول على الأَغْلَب عند من أطْلَقَه, وليس المقصود به الحكم على كل ما فيها بالصحة, والأفضل أن يُطلَق عليها «الكُتُب السِّتَّة», والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.