المراد بزيادة الثقة: أن يَرْوِيَ جماعةٌ حديثًا واحدًا بإسنادٍ واحدٍ، ومتنٍ واحدٍ، فيَزِيدُ بعضُ الرواة فيه زيادةً لم يَذْكُرْها بقيَّةُ الرواة. قاله الحافظ ابن رجب الحنبلي في «شرح علل الترمذي» (2/635).
اشتهر عند بعض العلماء أن زيادة الثقة تُقبَل مطلقًا، واستَدَلُّوا على ذلك بأقوال بعض الأئمة في الحكم على بعض الأحاديث التي قَبِلُوا فيها الزيادة.
ومن الأمثلة على ذلك عندهم: أن الإمام البخاريَّ سُئِلَ عن حديث أبي إسحاق في النكاح بلا ولي، فقال: "الزيادة من الثقة مقبولة، وإسرائيل ثقة”. [انظر: «معرفة السنن والآثار» للبيهقي: (10/35)].
وكذا الدار قطني يذكر في بعض المواضع أن الزيادة من الثقة مقبولة. [انظر على سبيل المثال: «العلل» له (2/75), و(2/182)، و(3/97)، و(9/280)، و11/347)، و(12/221)].
والصحيح الذي عليه جمهور المحدثين أن ذلك ليس مطلقًا عندهم، بل الذي جَرَى عليه منهجهم أنهم لا يَحْكُمُون فيها بحكم مستقل من القَبُول أو الرَّد، بل يُرَجِّحُون فيها بالقرائن.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "والذي يَجْرِي على قواعد المحدثين أنهم لا يَحْكُمُون عليه بحكم مستقل من القبول والرد، بل يُرَجِّحُون بالقرائن”. [«النكت» (2/687)].
وقال: "اشتهر عن جَمْعٍ من العلماء القول بقبول الزيادة مطلقًا من غير تفصيل، ولا يَتَأَتَّى ذلك على طريق المحدثين الذين يَشْتَرِطُون في الصحيح والحَسَن أن لا يكون شاذًّا”. [«النكت» (2/692)].
وقد فَصَّلَ الكلامَ في المسألة الحافظُ ابنُ رَجَبٍ الحنبليُّ في «شرح العلل»، وأَثْبَتَ بالدلائل والبراهين أن قبول الزيادة مطلقًا ليس من منهج المحدثين، بل الذي جَرَى عليه صنيعهم هو الترجيح بالقرائن.
وأَجَابَ عن قَبُول الإمام البخاريِّ الزيادةَ في حديث: «لا نكاحَ إلا بِوَلِيٍّ» بقوله: "هذه الحكاية إنْ صَحَّتْ فإنما مُرَادُه الزيادة في هذا الحديث، وإلا فَمَنْ تَأَمَّلَ كتاب تاريخ البخاري تَبَيَّنَ له قَطْعًا أنه لم يَكُنْ يَرَى أن زيادة كل ثقة في الإسناد مقبولة”. [«شرح علل الترمذي» (2/638)].
وأجاب عن قبول الدارقطني الزيادة في بعض المواضع بقوله: "الدارقطني يَذْكُرُ في بعض المواضع أن الزيادة من الثقة مقبولة، ثم يَرُدُّ في أكثر المواضع زياداتٍ كثيرةً من الثقات، ويُرَجِّحُ الإرسال على الإسناد. فَدَلَّ على أن مُرَادَهم زيادة الثقة في مثل تلك المواضع الخاصَّة، وهي إذا كان الثقة مبرزًا في الحفظ”. [«شرح علل الترمذي» (2/638)].
فهذا هو الصواب في المسألة، وعليه أئمة الحديث المُتَقَدِّمون كما قال الحافظ العَلَائِيُّ في »نَظْمِ الفَرَائِد لِمَا تَضَمَّنَهُ حدیث ذِی الْیَدَیْنِ مِنَ الفَوَائِد» (ص376-377): "أئمة الحديث المُتَقَدِّمون منهم: كيحيى بن سعيد القَطَّان، وعبد الرحمن بن مَهْدِي، ومَن بعدهم كعَلِي بن المَدِيني، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن مَعِين وهذه الطبقة، وكذلك من بعدهم: كالبخاري، وأبي حاتم وأبي زُرْعَة الرازِيَّيْن، ومسلم، والنسائي، والترمذي وأمثالهم، ثم الدارقطني، والخَلِيلي، كل هؤلاء يقتضي تَصَرُّفُهم من الزيادة قَبولاً ورَدًّا الترجيح بالنسبة إلى ما يَقْوَى عند الواحد منهم في كل حديث، ولا يَحْكُمون في المسألة بحُكْمٍ كُلِّيٍّ يَعُمُّ جميع الأحاديث، وهذا هو الحقُّ والصواب”.
وقال في موضع آخَر: "إنَّ الجماعة إذا اختَلَفُوا في إسناد حديث كان القول فيهم للأكثر عددًا أو للأحفَظ والأتْقَن … ويَتَرَجَّحُ هذا أيضًا من جهة المعنى بأن مَدَارَ قَبول خبر الواحد على غَلَبَة الظَّنِّ، وعند الاختلاف فيما هو مُقْتَضَى لصحَّة الحديث أو لتعليله يُرْجَعُ إلى قول الأكثر عددًا لِبُعْدِهم عن الغَلَط والسَّهْو، وذلك عند التَّسَاوِي في الحفظ والإتقان، فإن تَفارَقُوا واسْتَوَى العَدَد فإلى قول الأحفظ والأكثر اتقانًا، وهذه قاعدة مُتَّفَقٌ على العَمَل بها عند أهل الحديث”. [»نظم الفرائد» (ص367)].
فانظُرُوا إلى آخِر كلامه رحمه الله بَعْدَمَا ذَكَر جماعة من أئمة العِلَل المُتَقَدِّمِين قال: "هذه قاعدة –أي: الترجيح بالقرائن- مُتَّفَقٌ على العمل بها عند أهل الحديث”.
فالمُحَدِّثُون لا يَقْبَلون الزيادة مطلقًا، ولا يَرُدُّونها مطلقًا، بل مَرْجِعُهم في ذلك الترجيح بالقرائن، فيَقْبَلونها تارةً، ويَرُدُّونها أُخْرَى، ويَتَوَقَّفُون فيها أحيانًا لعدم ظُهور قرائن الترجيح فيها، ولا يُعْرَف عن أحدٍ منهم القولُ بقَبول الزيادة مطلقًا.
ويُؤَيِّدُه كلام الحافظ ابن حَجَر رحمه الله أيضًا؛ حيث يقول: "المنقول عن أئمة الحديث المُتقدمين -كعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى القَطَّان، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، والبخاري وأبي زرعة، وأبي حاتم، والنسائي، والدارقطني وغيرهم- اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها، ولا يُعرَف عن أحَد منهم اطلاق قبول الزيادة”. [«نزهة النظر» (ص82-83)].
فالراجح -والله أعلم- أن لا يُحْكَمَ على زيادة الثقة بحُكْمٍ عام، لا القبول ولا الرد، بل كل زيادة لها حُكْم خاصٌّ يَخُصُّهَا، وكل حديث له ذَوْق خاصٌّ، فيُنْظَرُ فيها إلى القَرَائن، ويُحْكَم بمُقْتَضَاهَا.
وصَلَّى الله على نَبِيِّنَا محمد وآلِهِ وصَحْبِه أجمعين.
Leave a Reply