التحقيق فيمن تَوَلَّى كِبَرَ الإفْك…..

فاروق عبد الله النَّرَايَنْفُورِي الحديث وعلومه

التحقيق فيمن تَوَلَّى كِبَرَ الإفْك على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها, وأخذ الدروس والعِبَر من القصة


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه أجمعين, أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, وبعد.
قد وردت روايات مختلفة فيمن تَوَلَّى كِبَرَ الإفك على أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما, فهناك رواية تصرح بأنه عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين – قبحه الله ولعنه -, ورواية أخرى تشير إلى أنه حسان بن ثابت رضي الله عنه, وبعض من في قلبه مرض يغتنم مثل هذه الفرص لجرح الصحابة رضي الله عنهم, ويتخذونه مدخلًا للطعن فيهم.
فكتبت هذه السطور لتحقيق هذا الأمر راجيًا من الله تعالى أن ينفع به عباده المؤمنين.
قال الله تبارك وتعالى في قصة الإفك: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾. (سورة النور, رقم الآية 11).
قال الضحاك في معنى قوله تعالى "والذي تولى كبره”: معناه "الذي بدأ بذلك”. [تفسير ابن جرير (17/191) وتفسير ابن أبي حاتم (8/2545)].
وقال مجاهد : "يُذيعُه”. [تفسير ابن جرير (17/196)].
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله : "والذي تولى كبره منهم ” قيل : ابتدأ به , وقيل : الذي كان يَجمَعه ويَسْتَوْشِيه ويُذيعه ويُشيعه”. [تفسير القرآن العظيم لابن كثير (6/25)].
فَمَنِ المرادُ في قوله تعالى: ﴿والذي تولى كبره﴾؟
جاءت روايات في تفسيرها في السنة النبوية , وإليكم نماذج من ذلك:
أولًا: الرواية التي تُصرِّح بأنه عبد الله بن أبي ابن سلول:
أخرج الإمام البخاري رحمه الله من طريق الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: (والذي تولى كبره) قالت : عبد الله بن أبي بن سلول. [رقم الحديث (4749)] .
وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة (4/72) فقال : أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يحي بن عبد الجبار السكري ببغداد , قال : أخبرنا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الصفار , قال :حدثنا أحمد بن منصور قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن الزهري قال : كنت عند الوليد بن عبد الملك فقال : الذي تولى كبره منهم علي، فقلت : لا، حدثني سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عتبة بن مسعود، كلهم سمع عائشة رضي الله عنها تقول : الذي تولى كبره عبد الله بن أُبَي، قال : فقال لي : فما كان جرمه؟ قال : قلت : سبحان الله! من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنهما سمعا عائشة تقول: كان مسيئًا في أمري” .
وإسناده حسن , فإن عبد الله بن يحي السكري قال فيه الخطيب البغدادي : "كتبنا عنه وكان صدوقًا”, وقال : سمعت البَرْقاني يقول : "عبد الله بن يحي السكري شيخ”, وحسَّن أمره. [تاريخ بغداد (11/454, الترجمة 5300)] .
وإسماعيل بن الصفار وثَّقه الدار قطني فقال : "كان ثقة متعصبًا للسنة”. [انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (15/441)].
وأحمد بن منصور وثَّقه أبو حاتم الرازي, والدار قطني. [تاريخ بغداد (6/365, الترجمة 2856)] .
وبقية رجال الإسناد ثقات مشهورون.
فهذه الرواية صريحة في أن الذي تولى كبر الإفك على أم المؤمنين هو عبد الله بن أبي رأس المنافقين, وهي رضي الله عنها كانت صاحبةَ القصة, فلا شك هي متيقنة بها, وأعرف وأعلم بها من غيرها.
أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلم يدخل في الخوض في القضية أصلًا -والله أعلم-, اللهم إلا ما جاء عند البخاري في صحيحه, قالت عائشة رضي الله عنها: "ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله, قالت: فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه, فقال أسامة: أهلُك ولا نعلم إلا خيرًا, وأما علي فقال: يا رسول الله! لم يضيق الله عليك, والنساء سواها كثير, وسل الجارية تَصدُقْك”. [كتاب المغازي, باب حديث الإفك, رقم الحديث 4141)] .
وفي رواية للبخاري [4142] قالت عائشة رضي الله عنها: "كان علي مسلِّمًا في شأنها”.
قال الحافظ في الفتح (9/251): "كذا في نسخ البخاري بكسر اللام الثقيلة, وفي رواية الحموي بفتح اللام”, وقال: "رواية الفتح تقتضي سلامته من ذلك, ورواية الكسر تقتضي تسليمه لذلك”.
وقال: "وكان بعض من لا خير فيه من الناصبة تقرب إلى بني أمية بهذه الكلمة, فحرفوا قول عائشة إلى غير وجهه لعلمهم بانحرافهم عن علي فظنوا صحتها, حتى بين الزهري للوليد أن الحق خلاف ذلك, فجزاه الله تعالى خيرًا”.
ثانيًا : الرواية التي تشير إلى أنه حسان بن ثابت رضي الله عنه:
أخرج الإمام البخاري [4146] من طريق مسروق قال: دخلنا على عائشة رضي الله عنها وعندها حسان بن ثابت ينشدها شعرًا يشبب بأبيات له, وقال:

حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

فقالت له عائشة: لكنك لست كذلك, قال مسروق: فقلت لها: لم تأذنين له أن يدخل عليك وقد قال الله تعالى: ﴿والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم﴾, فقالت : وأي عذاب أشد من العمى, قالت له : إنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
القول الراجح في تفسير قوله تعالى : ﴿والذي تولى كبره﴾:
لاشك –والعلم عند الله- أن الذي تولى كبر الإفك هو عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين وحامل لوائهم -قبَّحه الله ولعنه-, وهو المشهور بين علماء أهل السنة والجماعة, ويدل لذلك أمور:
1 – قال الله تعالى : "والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم”, والظاهر أنه عذاب الآخرة, أو أنه يشمل عذاب الدنيا والآخرة, وهذا العقاب مناسب جدًا مع عبد الله بن أبي المنافق, وحسَّان قد أقيم عليه الحد حدَّ القذف, وقد ورد في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعًا: "ومن أتى منكم حدًّا فأقيم عليه فهو كفارته, ومن ستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عذَّبه وإن شاء غفر له”. [الصحيح لمسلم, رقم الحديث (4560)] .
2 – قد مرَّ سابقًا أن معنى قوله تعالى: "والذي تولى كبره” أي: ابتدأ به ويذيعه ويشيعه, وهذا يوافق مع عمل عبد الله المنافق, وهو الذي بدأ القول به وكان يجمع أهله ويحدثهم به ويذيعه ويشيعه.
3 – جاء التصريح بأنه عبد الله بن أبي من قول عائشة رضي الله عنها, وهي صاحبة القصة, وصاحب البيت أدرى بما فيه.
4 – قال به الزهري وهو أحد رواتها ونقلتها.[دلائل النبوة للبيقي (4/72)].
5 – قال الله تعالى في بداية هذه القصة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ﴾, وتطلق العُصْـبَةُ مـن العشــرة إلى الأربعين، بينما الصحابة الذين جاء ذكرهم في الإفك ثلاثة، فعُلِم أن المراد بالعُصبة المنافقِون، ثم ذكرت الآيات الذي تولى كبره من هذه العُصبة، وهذا السياق يعين واحدًا من هذه العُصبة، وما هو إلا عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول, كذا قال الشيخ سليم بن عيد الهلالي حفظه الله, كما في موقعه الالكتروني بعنوان: "درء الشك عما أشكل من حديث الإفك”.
أما الرواية التي تشير إلى أنه حسان بن ثابت رضي الله عنه, فالجواب عنها:
إن عبد الله بن أُبَيّ هو الذي تولى كبره, فاخترع حادثة الإفك مع صحبة من المنافقين وروّجها في المدينة، وكان يصول ويجول، وهو الذي يجمع الناس في بيته ممن هم على شاكلته في الخبث والنفاق, وكان يذيع ذلك ويردّده مع عصابته وأهل بيته، ولما انتشر الكلام في ذلك من قِبلهم، وكانوا يتناقلونه فيما بينهم أَثّر ذلك في بعض المؤمنين، وصاروا يتكلمون به, لا أنهم بدؤوا به وروجوه الذي قيل في الآية؛ بل الآية نزلت في عبد الله بن أبي رأس المنافقين.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله : "الأكثرون على أن المراد بذلك إنما هو عبد الله بن أبي بن سَلُول -قبحه الله ولعنه-, وهو الذي تقدم النص عليه في الحديث، وقال ذلك مجاهد وغير واحد.
وقيل: بل المراد به حسان بن ثابت، وهو قول غريب، ولولا أنه وقع في صحيح البخاري ما قد يدل على ذلك لَمَا كان لإيراده كبير فائدة، فإنه من الصحابة الذين كان لهم فضائل ومناقب ومآثر، وأحسن محاسنه أنه كان يَذُبُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعره، وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هاجهم وجبريل معك”, انتهى. [تفسير القرآن العظيم لابن كثير (25-26 /6)] .
الدروس والعبر المستفادة من القصة:
1 – براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من الإفك الذي افتراه المنافقون وإثبات فضلها حيث برَّأَها الله تعالى من فوق سبع سماوات بقرآن يتلى إلى يوم القيامة.
2 – وجوب التثبت من الأخبار قبل نشرها، والتأكد من صحتها، قال تعالى: ﴿ وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 16].
3 – بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه ما كان يعلم الغيب.
4- الحرص على سُمْعَة المؤمنين، وحسن الظن بهم، قال تعالى: ﴿لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ﴾ [النور: 12].
5 – الحث على التفاؤل بالخير ولو كان الأمر ظاهره شر, قال تعالى : ﴿لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾[النور: 11] . فقد صار ابتلاء أسرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بحديث الإفك خيرًا لهم، حيث كتب الله لهم الأجر العظيم على صبرهم وقوة إيمانهم, وأنزل فيهم قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة.
6 – النهي عن إشاعة الفاحشة بين المؤمنين، قال تعالى:﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [النور: 19].
7 – أهمية الشورى, وطلب الفاضل له من المفضول والاعتداد برأيه.
8- حكمة الله تعالى في الحدود, ومنها حد القذف, وأهميته في المحافظة على أعراض المسلمين.
9 – درء المفاسد مقدم على جلب المصالح حيث لم يُقَم الحد على من تولى كبره.
10 – عدم الاستعجال في فراق الأهل والتأنِّي فيه.
أكتفي بهذا القدر فإنها عشرة كاملة, والقصة فيها غير ما ذكرتُ دروس وعبر لمن تأمل فيها.
أسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضاه.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

Leave a Reply

avatar
3000
  Subscribe  
Notify of